الحمد لله.
إذا كنت تقصد بسؤالك عن "المنطق" هو "المنطق الصوري الأرسطي" المشهور تعريفه بأنه آلة تعصم الفكر عن الزلل، فهذا لم يستعمل في الصدر الأول من الإسلام، ولم يرد على لسان أحد من الصحابة والتابعين، ولم تكن العرب تعرفه حتى ترجم في العصر العباسي عن الكتب اليونانية والسريانية، وانتقل إلى العرب وذاع صيته وانتشر بين العلماء بين القبول والرفض.
ولذلك ؛ فما روي في أثر ابن مسعود رضي الله عنه من قوله: (أنذرتكم صعاب المنطق) : لم يُرِد به المنطق الأرسطي الذي لم يكن قد بلغه أصلا، ولا تعرفه العرب، وتأخر انتقاله إلى العلوم الإسلامية كثيرا .
وإنما يريد به المعنى اللغوي لكلمة "المنطق"، كما فسرها العلماء رحمهم الله، أي أنه رضي الله عنه ينهى عوام الناس عن المسائل الصعاب الدقاق، وهي ما تسمى في الفقه بـ "الأغلوطات"، نعني: المسائل الفقهية الدقيقة التي يراد بالتنقيب عنها ضرب الفقه بعضه ببعض، ومغالطة الفقيه بإيهامه وقوع الغلط والتناقض في الفروع ، محل السؤال.
يقول أبو عبيد الهروي رحمه الله (ت401هـ):
"الأغلوطات...أراد المسائل التي يُغالَط بها العلماء، فيُستَزلوا، فيهيج بذلك شر وفتنة...
قال القتيبي: هو مثل حديث عبد الله بن مسعود (أنذرتكم صعاب المنطق) ؛ يريد : المسائل الدقاق والغوامض .
وإنما نهى عنها ، لأنها غير نافعة في الدين، ولا تكاد تكون إلا فيما [لا] يقع أبدا.
ألا ترى قول عبد الله: (وبحسب المؤمن من العلم أن يخشى الله)" انتهى من "الغريبين في القرآن والحديث" (ص1382)
ويقول الإمام البغوي رحمه الله:
"روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: (أنذرتكم صعاب المنطق)، يريد المسائل الدقاق والغوامض، وإنما نهى عنها لأنها غير نافعة في الدين، ولا يكاد يكون إلا فيما لا يقع أبدا.
يُكرَه للرجل أن يتكلف لسؤال ما لا حاجة به إليه، وإن دعت الحاجة إليه، فلا بأس" انتهى من "شرح السنة" (1/308)
ويقول ابن الأثير رحمه الله:
"أراد المسائل التي يغالَط بها العلماء ليَزِلُّوا فيها، فيهيج بذلك شر وفتنة.
وإنما نهى عنها لأنها غير نافعة في الدين، ولا تكاد تكون إلا فيما لا يقع.
ومثله قول ابن مسعود: (أنذرتكم صعاب المنطق) يريد المسائل الدقيقة الغامضة.
فأما الأُغلوطات : فهي جمع أُغلوطة، أُفعولة، من الغلط، كالأحدوثة والأعجوبة" انتهى من "النهاية في غريب الحديث والأثر" (3/ 378)، ونحوه في "العباب الزاخر" (1/292)، وفي "لسان العرب" (7/364)
وقد سبق في موقعنا تفسير السؤال الذي ورد ذمُّه في الآثار وأقوال العلماء، وذلك تحت الأرقام الآتية:
هذا وقد فسر بعض العلماء ما يحكى من كلام ابن مسعود رضي الله عنه في سياق الأخلاق والآداب التي تحث على صيانة اللسان عن الآفات، وحفظ الكلام عن اللغو والعبث.
يقول الإمام الماوردي رحمه الله:
"قال بعض الحكماء: من كثر كلامه كثرت آثامه.
وقال ابن مسعود: (أُنذِرُكم فضول المنطق).
وقال بعض البلغاء: كلام المرء بيان فضله، وترجمان عقله، فاقصره على الجميل، واقتصر منه على القليل، وإياك ما يسخط سلطانك، ويوحش إخوانك، فمن أسخط سلطانه تعرض للمنيَّة، ومَن أوحش إخوانه تبرأ مِن الحرية. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وهل يكب الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم)
وقال بعض الحكماء: مقتل الرجل بين فكيه.
وقال بعض البلغاء: الحَصَر [ = هو حبس اللسان عن الكلام] خير من الهَذَر؛ لأن الحصر يُضعٍف الحجة، والهذر يتلف المحجة.
وقال بعض الأدباء: يا رب ألسنة كالسيوف تقطع أعناق أصحابها" انتهى من "أدب الدنيا والدين" (ص: 278)
والحاصل : أننا لم نقف على أي إسنادٍ لكلام ابن مسعود في كتب الآثار، وإنما نقله بعض شراح الحديث من المتقدمين والمتأخرين، ومعناه عندهم لا يتصل بالحديث عن "المنطق الصوري"، وإنما عن "المنطق" بمعنى التحدث والسؤال والكلام.
والله أعلم.
تعليق