الحمد لله.
الاغتصاب في الأصل هو : أخذ الشيء ظلماً وقهراً ، وأصبح الآن مصطلحاً خاصا بالاعتداء بفعل الفاحشة قهراً .
ولا وجود لهذه العقوبة التي ذكرتها بالنسبة للمغتصب ، ولم يقل أحد من العلماء بهذا .
لأن المغتصب إذا اعتبرناه زانيا، فعقوبة الزاني هي الجلد إن كان بكرا ، والرجم إن كان محصنا .
وإذا اعتبرناه "محاربا" ، فعقوبة المحاربين ، وقطاع الطريق مذكورة في قول الله عز وجل : (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) المائدة/33 .
وإذا اعتبرناه لوطيا ، فعقوبة اللوطي القتل ، وقد اختلف العلماء في كيفية قتله ، فمنهم من قال يقتل بالرجم ، ومنهم من قال : بالحرق ، ومنهم من قال يلقى من مكان عالٍ ويتبع الحجارة . وانظر "الجواب الكافي" لابن القيم (ص 119) ، والسؤال رقم : (38622) .
وانظر في حكم جريمة الاغتصاب وعقوبتها جواب السؤال : (72338).
ثانيا :
العقوبة التي ذكرتها ذكرها بعض العلماء في صورة خاصة ، وهي : إذا فعل الفاحشة بصبي إكراها ، ومات ذلك الصبي ، فيجب على المغتصب القصاص، إن توفرت شروطه .
وفي كيفية القصاص قولان لأهل العلم :
الأول : أنه يقتص منه بقتله بالسيف ، وهو مذهب الأئمة الأربعة .
قال الله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) البقرة/194 .
قال القرطبي رحمه الله :
" لا خلاف بين العلماء أن هذه الآية أصل في المماثلة في القصاص ، فمن قَتَلَ بشيء قُتِلَ بمثل ما قُتِلَ به ، وهو قول الجمهور ، ما لم يقتله بفسق كاللوطية وإسقاء الخمر فيقتل بالسيف . وللشافعية قول : إنه يقتل بذلك ، فيتخذ عود على تلك الصفة ويطعن به في دبره حتى يموت ، ويسقى عن الخمر ماء حتى يموت " انتهى من "تفسير القرطبي" (2/358).
وفي " الموسوعة الفقهية الكويتية " ( 33 / 272 - 273 ) :
" طريقة استيفاء القصاص في النّفس ؛ ذهب المالكيّة والشّافعيّة ، وهو رواية للحنابلة : إلى أنّ القاتل يقتصّ منه ، بمثل الطّريقة والآلة الّتي قتل بها ، لقوله تعالى: ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ) .
إلاّ أن تكون الطّريقة محرّمة ، كأن يثبت القتل بخمر فيقتصّ بالسّيف عندهم .
وإن ثبت القتل بلواط أو بسحر ، فيقتصّ بالسّيف عند المالكيّة والحنابلة، وكذا في الأصحّ عن الشّافعيّة ...
وذهب الحنفيّة ، وهو المذهب عند الحنابلة : إلى أنّ القصاص لا يكون إلاّ بالسّيف ، ونصّ الحنابلة على أن يكون في العنق ، مهما كانت الآلة والطّريقة الّتي قتل بها " انتهى.
والقول الثاني : أنه يقتل بالطريقة التي ذكرتها ، وقال به بعض الشافعية ، واستدلوا بأن المشروع في القصاص أن يقتل الجاني يمثل ما قتل به ، فلما تعذرت المماثلة هنا لتحريم هذا الفعل انتقلنا إلى أقرب شيء يشبهه ، وهو ما ذكرته .
قال الماوردي الشافعي رحمه الله :
" فإذا ثبت اعتبار المماثلة ، في القصاص بكل ما يقتل بمثله ، فهو على العموم بكل ما قتل ، إلا بثلاثة أشياء :
أن يقتل بالسحر ، أو باللواط ، أو بسقي الخمر :
فلا يقتل بالسحر ، وإن قتل .
ولا يقتل باللواط ، وإن لاط به .
ولا يقتل بسقي الخمر ، وإن سقاه .
ويعدل إلى قتله بالسيف.
وحكي عن أبي إسحاق المروزي أنه يقتل في قتل اللواط : بإيلاج خشبة .
وفي سقي الخمر : بسقي الخل !!
وهذا فاسد ؛ لأنه لما تعذرت المماثلة - لحظرها على الفاعل والمفعول به، ولم يكن في العدول عنها مماثلة - كان السيف أحق " انتهى من "الحاوي" (12/141).
وقال الشيخ محمد بن عثيمين في "الشرح الممتع الشرح الممتع" (14/56) :
"يقتل الجاني بمثل ما قتل به؛ لعموم قوله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة: 178] .
وتمام القصاص أن يفعل بالجاني كما فعل؛ لأنه من القص وهو تتبع الأثر، ولقوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة: 194]، ولقوله تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل: 126]، ولقوله تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى: 40] . وما أشبه ذلك من الآيات .
ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم رضَّ رأس الرجل اليهودي بين حجرين؛ لأنه قتل الجارية الأنصارية برض رأسها بين حجرين ، وهذا دليل خاص، والآيات التي سقناها أدلة عامة .
فهذه أدلة من الكتاب والسنة .
ومن النظر أيضاً نقول: كيف يمثل هذا الجاني بالمقتول، ويقتله بأبشع قتلة ويمزقه تمزيقاً، ثم نقول له: سنضربك بالسيف؟! فهذا ليس بعدل، والله تعالى يقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [النحل: 90] .
إلاّ إذا قتله بوسيلة محرّمة ، فإننا لا نقتله بها، مثل أن يقتله باللواط والعياذ بالله، أو بالسحر، أو أن يقتله بإسقاء الخمر حتى يموت فإنه لا يفعل به كذلك.
وقال بعضهم: بل يفعل به ولو كان محرماً، لكننا لا نفعل المحرَّم .
فمثلاً لو قتله باللواط ، وما أشبه ذلك : فإننا ندخل في دبره خشبة حتى يموت .
وعلى كل حال هذه الصور النادرة يمكن أن تستثنى .
أما إذا رض رأسه بين حجرين، أو ذبحه بسكين كالَّة، أو بالصعق الكهربائي، أو أحرقه بالنار، فإن الصواب ـ ولا شك ـ : أن يفعل به كما فعل" انتهى .
وهذا القول – كما ترى – : إنما هو في صورة مخصوصة ، وبكيفية مخصوصة ، لا يكونه فيها ملابسة لشيء من المحرم .
وهذا أيضا : ليس منصوصا عليه في القرآن الكريم ، ولا في السنة النبوية ، وإنما هو اجتهاد من بعض العلماء في كون هذا من العدل أم لا ؟
وجماهير العلماء على خلاف هذا القول – كما سبق - .
ولكن في الوقت ذاته ليس هذا القول مستنكرا ، بإطلاق ، ولا نخجل من كون بعض علمائنا قاله، فإن له وجاهة وحظا من النظر ؛ لأن المجني عليه تألم ، وقُتل بهذا الفعل ، وانتهكت حرمته ؛ فكان من العدل أن نجمع للجاني بين الأمرين ، التألم والقتل ، والخزي المترتب على هذا الفعل المعين .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" والعدل في القصاص معتبر بحسب الإمكان .. " انتهى من "مجموع الفتاوى" (3/402).
والله أعلم .
تعليق