الحمد لله.
أولا :
يمر الجنين في بطن أمه بعدة مراحل حتى يتم مائة وعشرين يوما من بداية الحمل ، فيرسل الله تعالى إليه ملكًا فينفخ فيه الروح ، كما ثبت بذلك الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم .
فإذا نفخت فيه الروح فقد صار إنسانا ، له حرمة الإنسان ، ولا يجوز الاعتداء على حياته ، وقتله يعتبر قتلا لنفس مؤمنة بغير حق .. إلا صورة واحدة فقط استثناها أكثر العلماء المعاصرين - كما سيأتي – .
وإذا ثبت هذا ، فإن إسقاط الجنين المشوه، قبل نفخ الروح فيه : جائز ، دفعًا للضرر عنه وعن والديه وأسرته إذا ولد مشوها ، وهو بعدُ لم يصر إنسانا ، حيث لم تنفخ فيه الروح .
وأما بعد نفخ الروح فيه : فقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز إسقاطه ، وإسقاطه في هذه الحالة هو قتل إنسان بغير حق ، وذلك من كبائر الذنوب التي تهلك صاحبها ، ويستحق عليها الوعيد الشديد الذي ورد في قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) النساء /53 .
وقد سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء عن إسقاط الحمل في شهره الخامس ، بعد أن أثبتت الأشعة تشوهه بعدم وجود الجزء العلوي من الجمجمة .
فأجابت :
"لا يجوز إسقاطه من أجل التشوه الذي ذكر في السؤال مع العلم بأنه قد يشفيه الله بما بقي من المدة ، ويولد سليماً ، كما قد وقع ذلك لكثير من الناس " انتهى . فتاوى اللجنة الدائمة (21/440) .
ومثل هذا : هو من المصائب التي يقدرها الله تعالى على المسلم ، وشأن المسلم : أن يقابلها بالصبر، فتكون خيرا لها ، قال الله تعالى : ( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) البقرة/216 ، وقال تعالى : ( فعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ) النساء/19 ، وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ) رواه مسلم (2999) .
وقد يقدر الله تعالى لعبده المؤمن منزلة عالية في الجنة، لا يبلغها بعمله ، حيث تقصر صلاته وصيامه وعبادته عن بلوغ تلك المنزلة ، فيقدر الله تعالى عليه من المصائب والآلام والابتلاءات، ما يصبر عليه، ويرضى به: فيكون ذلك زيادة في حسناته ، فيبلغ تلك الدرجة العالية ، قال الله تعالى : (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) الزمر/10 .
ثانيا :
الحالة التي أشرنا سابقا إلى إسقاط الجنين فيها ، بعد نفخ الروح فيه : قاصرة على ما إذا ثبت طبيا أن بقاء الجنين المشوه سيعرض حياة الأم للخطر ، ففي هذه الحالة أجاز أكثر العلماء المعاصرين إسقاطه، لضرورة الحفاظ على حياة الأم .
وقد سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء عن امرأة حامل في الشهر الخامس وفي الجنين تشوهات، مما يعرض حياة الأم للخطر فهل يجوز إسقاطه ؟
فأجابت :
"بعد دراسة اللجنة للاستفتاء أجابت : بأنه إذا كان الواقع كما ذكر، من أن استمرار الحمل لهذه المرأة حتى يتم وضعه، يترتب عليه تهديد حياة الأم بالخطر، فإنه لا مانع من إجهاض الحمل قبل اكتماله ، حماية لحياة الأم ، ودفعاً للضرر عنها .
أما إذا كان إجهاض الحمل من أجل التشوه فقط: فإنه لا يجوز إسقاطه " انتهى . فتاوى اللجنة الدائمة (21/452) .
وينظر السؤال رقم (12811) ، (12289) ، (243822) .
ثالثا :
في الحالة التي يحرم فيها الإسقاط ، وهي كون الجنين قد نفخت فيه الروح ، وليس في بقائه خطر على حياة الأم .. في هذه الحالة لا يجوز للأب أن يأمر زوجته بالإسقاط ، ولا يجوز لها أن تطيعه ، فإنه (لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) رواه أحمد (1089) وصححه الألباني .
فالله سبحانه هو الأحق أن يطاع فلا يعصى ، وكل من أمر بخلاف أمر الله تعالى فلا طاعة له.
فإن أطاعت المرأة زوجها، وعصت ربها ، فإن الإثم عليهما معًا ، فقد اشتركا في قتل نفس مؤمنة بغير حق ، وعليهما دفع الدية إلى ورثة الجنين ، كإخوته وأعمامه .. ولا يأخذ منها الأب ولا الأم شيئا .
ودية الجنين هي عشر دية الأم .
وعليهما – أيضا - كفارة القتل عند جمهور العلماء ، وهي عتق رقبة مؤمنة ، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين .
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَسْقِطِي مَا فِي بَطْنِك وَالْإِثْمُ عَلَيَّ. فَإِذَا فَعَلَتْ هَذَا وَسَمِعَتْ مِنْهُ: فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا مِنْ الْكَفَّارَةِ؟
فَأَجَابَ:
إنْ فَعَلَتْ ذَلِكَ: فَعَلَيْهِمَا كَفَّارَةُ عِتْقِ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدَا فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ .
وَعَلَيْهِمَا غُرَّةٌ : عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ لِوَارِثِهِ الَّذِي لَمْ يَقْتُلْهُ؛ لَا لِلْأَبِ ، فَإِنَّ الْأَبَ هُوَ الْآمِرُ بِقَتْلِهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا" انتهى من مجموع الفتاوى (34/159) .
وسئل رحمه الله (34/160، 161) عن رجل حملت منه جاريته ، فكان يضربها ضربا مبرحا ، ويسقيها أشياء لإسقاط الجنين، حتى أسقطته مكرهة، فماذا يجب على هذا الرجل ، وهل هذا مسقط لعدالته ؟
فَأَجَابَ:
"الْحَمْدُ لِلَّهِ، إسْقَاطُ الْحَمْلِ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ، وَهُوَ مِنْ الْوَأْدِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ)، وَقَدْ قَالَ: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ) .
وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الشَّخْصَ أَسْقَطَ الْحَمْلَ خَطَأً، مِثْلَ أَنْ يَضْرِبَ الْمَرْأَةَ خَطَأً فَتَسْقُطُ: فَعَلَيْهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ ؛ بِنَصِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ، وَتَكُونُ قِيمَةُ الْغُرَّةِ بِقَدْرِ عُشْرِ دِيَةِ الْأُمِّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ: كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد.
كَذَلِكَ: عَلَيْهِ " كَفَّارَةُ الْقَتْلِ " عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى: (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ إلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا ) إلى قوله تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ) .
وَأَمَّا إذَا تَعَمَّدَ الْإِسْقَاطَ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةً تَرْدَعُهُ عَنْ ذَلِكَ ، وَذَلِكَ مِمَّا يَقْدَحُ فِي دِينِهِ وَعَدَالَتِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ" انتهى .
وسئل أيضا (13/161) : "عَنْ امْرَأَةٍ حَامِلٍ تَعَمَّدَتْ إسْقَاطَ الْجَنِينِ إمَّا بِضَرْبِ وَإِمَّا بِشُرْبِ دَوَاءٍ: فَمَا يَجِبُ عَلَيْهَا؟
فَأَجَابَ:
يَجِبُ عَلَيْهَا، بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ: غُرَّةٌ؛ عَبْدٌ ، أَوْ أَمَةٌ ، تَكُونُ هَذِهِ الْغُرَّةُ لِوَرَثَةِ الْجَنِينِ، غَيْرَ أُمِّهِ . فَإِنْ كَانَ لَهُ أَبٌ، كَانَتْ الْغُرَّةُ لِأَبِيهِ ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يُسْقِطَ عَنْ الْمَرْأَةِ، فَلَهُ ذَلِكَ ، وَتَكُونُ قِيمَةُ الْغُرَّةِ عُشْرَ دِيَةٍ، أَوْ خَمْسِينَ دِينَارًا.
وَعَلَيْهَا أَيْضًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ: عِتْقُ رَقَبَةٍ ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ صَامَتْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ أَطْعَمَتْ سِتِّينَ مِسْكِينًا" انتهى .
ووزن الدينار أربعة جرامات وربع من الذهب ، فيكون وزن الخمسين دينارا : 212.5 جراما من الذهب .
نسأل الله تعالى أن يصلح شأنكم ، ويرزقكم الذرية الصالحة .
والله أعلم .
تعليق