الحمد لله.
أولا:
الشيخ أبو علي منصور بن أحمد المَشَدَّالى أحد علماء المذهب المالكي ، توفي سنة 731ه.
ورد في "المعيار المعرب عن فتاوى أهل أفريقية والأندلس والمغرب" (11 / 193):
" أنّ الشيخ أبا علي منصور بن أحمد المَشَدَّالي، أفتى فيمن كانت له زوجة تخرج وتتصرف في حوائجها بادية الوجه والأطراف، كما جرت به عوائد البوادي، أنه لا تجوز إمامته، ولا تقبل شهادته... " انتهى.
وهذه الفتوى مبنية على أمرين:
الأمر الأول:
أن سبيل المؤمنين من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، إلى عصر أبي علي المشدالي وما بعده أن أهل التقى والعدالة ممن يقول بعورة وجه المرأة ومن لا يقول؛ كلهم لا يسمحون لزوجاتهم بمخالطة الرجال سافرات الوجوه ؛ لأن هذا من أعظم الفتن والمنكرات.
قال الموزعي الشافعي:
" ولم يزل عمل الناس على ذلك قديما وحديثا في جميع الأمصار والأقطار، فيتسامحون للعجوز في كشف وجهها، ولا يتسامحون للشابة، ويرونه عورة منكرا " .
انتهى من "تيسير البيان لأحكام القرآن" (4 / 77).
وخروج المرأة لحوائجها كالبيع والشراء جائز ، لكنه لا يبيح لها أن تكشف وجهها وأطرافها .
والشيخ رحمه الله لم ينكر خروج المرأة لقضاء حوائجها ، وإنما ضم إلى ذلك كشفها وجهها وأطرافها .
وقد نص الإمام مالك رحمه الله على أن المرأة لا تمنع من الجلوس إلى الصناع ونحوهم ، إلا إذا كان في ذلك فتنة أو ذريعة للفساد ، وذلك يختلف باختلاف النساء ، وباختلاف الباعة والصناع.
قال ابن القطان الفاسي رحمه الله تعالى:
" ليس من الضرورات احتياجها إلى أن تبيع أو تبتاع أو تستصنع.
وقد رُوي عن مالك: أنه قال: أرى أن يتقدم إلى الصناع في قعود النساء إليهم، ولا تترك الشابة تجلس إلى الصنَّاع ، وأما المتجالَّة والخادم الدّون ، ومَن لايُتَّهم على القعود عنده؛ فلا بأس بذلك.
وهذا كله صواب من القول، فإن أكثر هذه ليست بضرورات مبيحة للتكشُّف ، قد تصنع ، وتستصنع ، وتتصرَّف بالبيع والشراء وغير ذلك ؛ وهي مستترة " .
انتهى من "إحكام النظر في أحكام النظر" (ص 493).
ويتقوى ذلك بتشديد الشريعة في أمر النساء ، والحذر من فتنتهن ، والافتتان بهن .
عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ رواه البخاري (5096) ، ومسلم (2740).
فمن سمح لزوجته بهذا الاختلاط مع السفور ، ولم يبال بذلك فقد سقطت عدالته بهذا.
فهذا وجه القول بفسقه .
الأمر الثاني:
أن من سقطت عدالته بفسق، لا تصح إمامته على القول المشهور في مذهب الإمام مالك، وهو مذهب الشيخ أبي علي؛ لأن الفاسق على المشهور في المذهب غير مؤتمن وتحوم حوله تهمة التساهل في أداء الصلاة على وجهها الواجب والصحيح.
قال ابن رشد رحمه الله تعالى:
" اختلفوا في إمامة الفاسق:
فردها قوم بإطلاق.
وأجازها قوم بإطلاق.
وفرق قوم بين أن يكون فسقه مقطوعا به، أو غير مقطوع به، فقالوا: إن كان فسقه مقطوعا به أعاد الصلاة المصلي وراءه أبدا، وإن كان مظنونا، استحبت له الإعادة في الوقت ، وهذا الذي اختاره الأبهري تأولا على المذهب -المالكي-...
فمن رأى أن الفسق لما كان لا يبطل صحة الصلاة ، ولم يكن يحتاج المأموم من إمامه إلا صحة صلاته فقط ، على قول من يرى أن الإمام يحمل عن المأموم : أجاز إمامة الفاسق .
ومن قاس الإمامة على الشهادة ، واتهم الفاسق أن يكون يصلي صلاة فاسدة، كما يتهم في الشهادة أن يكذب : لم يجز إمامته... " انتهى من "بداية المجتهد" (1 / 353).
وهذه الفتوى للشيخ أبي علي المشذالي تدل على أنه يقول بفسق مثل هذا الزوج الذي يسمح لزوجته بذلك، على ما سبق بيان وجهه .
وأنه ـ أيضا ـ يذهب إلى القول المشهور في المذهب المالكي من عدم صحة إمامة الفاسق .
وهذا القول لم ينفرد به المذهب المالكي ، بل هو قول الحنابلة أيضا .
هذا ، مع أن كان الراجح صحة الصلاة خلف الفاسق مع الكراهة ، وينظر السؤال رقم :(13465) ، (47884) .
ثانيا:
وأما متى لا تقبل شهادة الرجل؟
فمدار رد شهادة الرجل هو على وجود تهمة تحيط بشاهدته ، بحيث لا يمكن الوثوق بأنه يؤدي الشهادة على وجهها الصحيح.
جاء في "الموسوعة الفقهية الكويتية" (14 / 92):
" أصل رد الشهادة ، ومبناه التهمة: والشهادة خبر يحتمل الصدق والكذب، وحجته بترجح جانب الصدق فيه ، فإذا شابت الحجة شائبة التهمة : ضعفت، ولم تصلح للترجيح " انتهى.
وقال القرافي رحمه الله تعالى:
" اعلم أن الأمة مجمعة على رد الشهادة بالتهمة من حيث الجملة لكن وقع الخلاف في بعض الرتب، وتحرير ذلك أن التهمة ثلاثة أقسام:
مجمع على اعتبارها لقوتها.
ومجمع على إلغائها لخفتها.
ومختلف فيها هل تلحق بالرتبة العليا فتمنع أو بالرتبة الدنيا فلا تمنع... " .
انتهى من "الفروق" (4 / 70) .
ومن التهم التي تحيط بالرجل وتفقدنا الثقة بقوله : أن يكون متهاونا في أمر دينه ، فنستدل بمسلكه العام ، وتهاونه في أمور الشريعة ، على أن مثله لا يبعد منه أن يتهاون في أمر الشهادة، ولا يعظمها ، كما تهاون في أمر الشرائع المفروضة عليه ، ولم يعظمها .
جاء في "الموسوعة الفقهية" (14/132) :
"يشترط في قبول الشهادة العدالة ، فمن ارتكب كبيرة ، أو أصر على صغيرة : سقطت عدالته ، ولا تقبل شهادته إذا لم يتب ، وهذا باتفاق الفقهاء" انتهى .
وبهذا يتبين أن فتوى الشيخ أبي علي منصور بن أحمد ليس فيها ما يستنكر ، ولا ما هو خارج عن أصول الشريعة ؛ بغض النظر عن الراجح والمرجوح في نفس الأمر ، وهل تصح الصلاة خلف مثل هذا الشخص أولا ؛ إنما مرادنا هنا بيان وجه الفتوى المذكورة .
والله أعلم.
تعليق