الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 - 22 نوفمبر 2024
العربية

استشكال متعلق بمسألة دعوى الزاني أنه متزوج بمن زنى بها

266071

تاريخ النشر : 09-09-2018

المشاهدات : 5500

السؤال

قرأت إجاباتكم على هذا السؤال https://islamqa.info/ar/139687 فوجدت أنه ممكن أن يتخذ البعض هذا زريعة للزنا ، يزني ثم يقول : إنه تزوجها متعة على رأي أصحاب هذا المذهب الفاسد ، هلّا وجدتم مخرجا.

الجواب

الحمد لله.

الإسلام لم يأت لغلق منافذ الهروب من العقوبات الدنيوية على أصحاب الجرائم الأخلاقية ؛ بل كلما قام المرتكب لها بستر نفسه وسارع إلى التوبة فهو أفضل.

فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ بَعْدَ أَنْ رَجَمَ الْأَسْلَمِيَّ فَقَالَ:   اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَةَ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا ، فَمَنْ أَلَمَّ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ وَلْيُتُبْ إِلَى اللَّهِ ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِلْنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ   .

رواه الحاكم في "المستدرك" (4 / 244)، وقال: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ"، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في "السلسة الصحيحة" (2 / 267).

وإنما شرعت العقوبات على هذه الجرائم؛ لفائدة شخصية للمذنب، ولتحقيق فائدة اجتماعية.

فالفائدة الشخصية: هي أن هذه العقوبات كفارات للمذنبين.

فعن عُبَادَةَ بْن الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ العَقَبَةِ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ، وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ:  بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ، وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلاَ تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ: إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ   رواه البخاري (18) ، ومسلم (1709).

قال ابن رجب رحمه الله تعالى:

" وهذا صريح في أن إقامة الحدود كفارات لأهلها.

وقد صرح بذلك سفيان الثوري، ونص على ذلك أحمد في رواية عبدوس بن مالك العطار، عنه.

وقال الشافعي: لم أسمع في هذا الباب - أن الحد كفارة - أحسن من حديث عبادة " .

انتهى من "فتح الباري" (1 / 79).

ومن فر بطريق غير مشروع من هذه الكفارة؛ فإثمه على نفسه، وكل نفس بما كسبت رهينة.

والفائدة الاجتماعية التي تهم الناس جميعا: هي أن في إقامة هذه العقوبات زجرًا شديدًا للناس عنها، وتزكية للمجتمع، وتطهيرا له من الخبائث، فلا أحد يحب الوقوف في موقف يفضح فيه نفسه وقومه؛ وإلى هذا يشير قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ   النور/2 .

وفي ضمن هذا النظام الشرعي المتكامل : يظهر أدب عظيم جاء به الإسلام ، يساهم مساهمة عظيمة في تزكية القلوب ، ويجعلها تعظم الحرمات، ولكن للأسف يتسارع كثير من الناس في هذا الزمن إلى مخالفته؛ وهذا الأدب هو تجنب إشاعة الفاحشة بين المسلمين؛ وفي المقابل تقديم حسن الظن عند سماع تهمة أخلاقية ضد مسلم أو مسلمة ، حتى يقوم الدليل القاطع بوقوعها؛ لأن الإشاعة والنشر لوقائع الفواحش يهوّن شأنها في القلوب الضعيفة ، و يجرئها على الوقوع فيها؛ بخلاف لو سترت وكتمت؛ فإن العادة في النفوس أنها تتهيب الوقوع في الذنوب التي لم تسمع أن الناس يقعون فيها.

قال الله تعالى:  لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ   النور/12 - 19.

روى ابن أبي حاتم في "التفسير" (8 / 2550) عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: ( مَنْ أَشَاعَ الْفَاحِشَةَ، فَعَلَيْهِ النَّكَالُ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا ).

فمن أشاع حادثة زنى، ولو كان صادقا ، فإنه يلزمه أن يأتي بثلاثة شهود رأوا ما رأى.

قال ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى:

" فاجمع العلماء، أنّ البينة في الزنى أربعة شهداء، رجال، عدول، يشهدون بالصريح من الزنى، لا بالكناية، وبالرؤية كذلك، والمعاينة.

ولا يجوز عند الجميع في ذلك، شهادة النساء...

وأما الاعتراف؛ فهو الإقرار من البالغ العاقل ، بالزنى صراحا لا كناية، فإذا ثبت على إقراره، ولم ينزع عنه، وكان محصنا : وجب عليه الرجم، وإن كان بكرا : جُلد مائة، وهذا كله لا خلاف فيه بين العلماء " انتهى من "الاستذكار" (24 / 63 - 64).

ويشهد هؤلاء الأربعة شهادة مفصلة؛ فلا يكفي ما تعارف عليه الناس من رؤية رجل نائم مع امرأة في خلوة ، فيعدونه زنى، بل لا بدّ، من رؤية عملية الجماع نفسها، بحيث يرى الذكر في الفرج.

" فيشترط في شهادة الزنى التفصيل، فيصف الشهود كيفية الزنى، فيقولون: رأيناه مغيبا ذكره في فرجها، أو غيب حشفته أو قدرها - إن كان مقطوعها - في فرجها ، كالميل في المكحلة، أو الرشاء في البئر، لأنه إذا اعتبر التصريح في الإقرار، كان اعتباره في الشهادة أولى؛ ولأنه قد يعتقد الشاهد ما ليس بزنى زنى، فاعتبر ذكر صفته.

كما يبين الشهود كيفيتهما من اضطجاع أو جلوس أو قيام، أو هو فوقها أو تحتها " .

انتهى من"الموسوعة الفقهية الكويتية" (24 / 39).

فإذا صحت شهادتهم ، لكن قامت شبهة ، كادعائهما أنهما متزوجان ؛ فإن الحد والعقوبة قد تسقط بهذه الشبهة؛ لأن الزواج المختلف في صحته وفساده : لا يحد صاحبه.

قال ابن قدامة رحمه الله تعالى:

" ولا يجب الحد بالوطء في نكاح مختلف فيه، كنكاح المتعة، والشغار، والتحليل، والنكاح بلا ولي ولا شهود، ونكاح الأخت في عدة أختها البائن، ونكاح الخامسة في عدة الرابعة البائن، ونكاح المجوسية. وهذا قول أكثر أهل العلم؛ لأن الاختلاف في إباحة الوطء فيه شبهة، والحدود تُدرأ بالشبهات " انتهى من"المغني" (12 / 343 - 344).

فدعوى الزواج ، في مثل هذه الحال : شبهة عند جمهور أهل العلم.

قال ابن المنذر رحمه الله تعالى:

" واختلفوا في الرجل يوجد مع المرأة، فيتفقان على أنهما زوجان.

فقالت طائفة: القول قولهما. كذلك قال الحكم، وحماد بن أبي سليمان، والشافعي، وأصحاب الرأي.

وقال النخعي: يُسأل البينة، وإلا أقيم عليهما الحد.

وإذا شهدوا عليه بالزنى، أو عليهما، فقالا: نحن زوجان: فعليهما الحد إذا لم يكن لهما بينة بالنكاح، وبه قال أبو ثور.

وقال أصحاب الرأي: لا حد عليهما.

قال أبو بكر: عليهما الحد، لأن الشهادة على الزنا هكذا تكون، وإذا وجب الحد ببينة عادلة ، لم يسقط بقول الذي عليه الحد، وهذا مذهب غير واحد، وبه قال أبو ثور." .

انتهى من  "الإشراف" (7 / 294).

وعمدة من قال بسقوط الحد هنا : أن هذه الدعوى شبهة، والقاعدة "أن الحدود تدرأ وتسقط بالشبهات".

قال ابن الهمام رحمه الله تعالى:

" هذا المعنى مقطوعا بثبوته من جهة الشرع فكان الشك فيه شكا في ضروري فلا يلتفت إلى قائله ولا يعول عليه .

وإنما يقع الاختلاف أحيانا في بعض: أهي شبهة صالحة للدرء، أو لا ؛ بين الفقهاء " .

انتهى من "فتح القدير" (4 / 140).

والحاصل؛ أن تكامل النظام الإسلامي ، ومراعاة جوانبه التشريعية والتأديبية ، وما فيه من استصلاح للنفوس والمجتمعات : جميعها عوامل تدفع الإشكال الوارد على هذه المسألة ، وتخفف من غرابتها التي تبدو للناظر .

لكن إن كثر الفساد ، وتمادى أصحابه في الكذب، ولم يكن لصاحب الدعوى هنا بينة ، بل ظاهر حاله الفحش والفساد ، فرأى الحاكم والقاضي أن قبول هذه الدعوى من شأنه أن يزيد الناس فسادا ، ويجرئهم على انتهاك الحرمات : فله أن يأخذ في هذه الحالة بالقول الآخر ، باعتبار أن الشبهة في هذه الحال ضعيفة لا تسقط حدا؛ متى ثبت بالبينة .

وهذه من مسائل الخلاف والاجتهاد التي يراعى فيها الحال والزمن ومرد ذلك إلى القاضي والحاكم الذي عليه أن يسوس الناس بما يصلح دينهم ودنياهم.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب