الحمد لله.
إن كان الداعي يرغب في سكنى بلد ، له فيها مصلحة في دينه أو دنياه، وهذه المصلحة مرتبطة بزمن ، فلا حرج عليه أن يدعو بذلك ، لكن المكروه هو التشقيق المبالغ فيه الذي ينافي آداب الدعاء وسؤال الله تعالى .
كمن يدعو الله بأن يسكنه البلد الفلاني ، في الحي الفلاني بجوار كذا وكذا في الشقة الفلانية ، في الساعة الفلانية ، فالذي يظهر أن هذا من التكلف والتشقيق في المسألة ، وهو خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده .
ولو أنه قال : " اللهم أنزلني المنزل المبارك في البلد الفلاني وأنت خير المنزلين ، واختر لي خيرتك الصالحة " ونحو هذا لكان خيرا له .
وقد يكون للداعي مصلحة حقيقية في ذكر شيء من التفصيل ، فلا يعد حينئذ من المبالغة المكروهة ، لكن الأصل : استحباب الإجمال في الدعاء ، وترك التفصيل .
روت عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ( كان يَسْتَحِبُّ الْجَوَامِعَ مِنْ الدُّعَاءِ وَيَدَعُ مَا سِوَى ذَلِكَ ) رواه أحمد (27649) وأبو داود (1482) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع .
والمراد بجوامع الدعاء : " الْجَامِعَة لِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ، وَهِيَ مَا كَانَ لَفْظه قَلِيلًا وَمَعْنَاهُ كَثِيرًا ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى : ( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة وَقِنَا عَذَاب النَّار ) ، وَمِثْل الدُّعَاء بِالْعَافِيَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة .
وَقَالَ عَلِيّ الْقَارِيّ : وَهِيَ الَّتِي تَجْمَعُ الْأَغْرَاض الصَّالِحَة ، أَوْ تَجْمَعُ الثَّنَاء عَلَى اللَّه تَعَالَى وَآدَاب الْمَسْأَلَة " انتهى .
"عون المعبود شرح سنن أبي داود" (4/249) . .
ومما ورد في كراهة الشتقيق في الدعاء :
عن عبد الله بن مغفل أنه سمع ابنه يقول : ( اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها ، فقال : أي بنيّ سل الله الجنة وتعوذ بالله من النار ، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول : إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء ) رواه أبو داود (096) وصححه الألباني في صحيح أبي داود .
وعَنْ ابْنٍ لِسَعْد بن أبي وقاص ، أَنَّهُ قَالَ : ( سَمِعَنِي أَبِي وَأَنَا أَقُولُ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَنَعِيمَهَا وَبَهْجَتَهَا وَكَذَا وَكَذَا ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ النَّارِ وَسَلَاسِلِهَا وَأَغْلَالِهَا وَكَذَا وَكَذَا ، فَقَالَ : يَا بُنَيَّ ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ ) ؛ فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ ؛ إِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَ الْجَنَّةَ أُعْطِيتَهَا وَمَا فِيهَا مِنْ الْخَيْرِ ، وَإِنْ أُعِذْتَ مِنْ النَّارِ أُعِذْتَ مِنْهَا وَمَا فِيهَا مِنْ الشَّرِّ !! ) رواه أحمد (1486) وأبو داود (1480) ، وصححه الألباني .
وينظر جواب السؤال رقم (107302).
فالذي يجمل في الدعاء ويترك التفصيل ، ويطلب الخيرة من الله فيه – حريٌ بأن يحظى بالأنفع له ، واختيار الله خير من اختيار العبد لنفسه ، وإن المرء ليعجل ويقترح وهو لا يعرف مآلات الأمور (ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا) الإسراء/11 .
ولو استسلم لله واطمأن إلى اختياره؛ لاستراح من الأفكار المتعبة في أنواع الاختيارات، ولأمضى رحلة الحياة الدنيا في طمأنينة، ولرأى من حسن العاقبة ما لم يكن ليصل إلى بعضه بما يختاره لنفسه .
والله أعلم .
تعليق