الحمد لله.
أولا:
ما جاء في هذه الرسالة كلام باطل، لا أساس له. والقرآن لا يفسر بالرأي المجرد، والظن والزعم ، والهوى والتشهي ؛ ومن فسر القرآن برأيه فقد تقوّل على الله بغير علم.
قال الله تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) الاسراء/36
وقال: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) الأعراف/33.
وإنما يفسر القرآن بالقرآن، وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الشارحة للقرآن، وبكلام الصحابة الذين أخذوا عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير القرآن.
وهذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر بتطبيقها، -كما أمرت أمته من بعده بذلك-، فما على المؤمن إلا أن ينظر كيف طبقها النبي صلى الله عليه وسلم: هل منع السارق وحبسه، أم قطع يده؟
أما غير المؤمن فلا كلام لنا معه هنا، ولا شأن له بتفسير القرآن، بل يكون الكلام معه في إثبات النبوة ، وصحة الدين ، أولا.
ويدخل في ذلك منكر السنة، فإن الكلام يكون معه أولا في إثبات حجية السنة، وفي إثبات أنه لن يبقى مسلما لو أنكر السنة.
وينظر جواب السؤال رقم ((220518 في بيان ضلال من يسمون بالقرآنيين.
ثانيا:
قال الله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) المائدة/38، 39
فلننظر كيف فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية وبينها.
روى أحمد (6383) وأبو داود (4374) والنسائي (4888) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَتِ امْرَأَةٌ مَخْزُومِيَّةٌ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ يَدِهَا، فَقَطَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهَا. وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
وروى البخاري (6789) ومسلم (1684) واللفظ له عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا
وروى الترمذي (1447) وأبو داود (4411) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَيْرِيزٍ، قَالَ: سَأَلْتُ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ عَنْ تَعْلِيقِ اليَدِ فِي عُنُقِ السَّارِقِ أَمِنَ السُّنَّةِ هُوَ؟ قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَارِقٍ فَقُطِعَتْ يَدُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا، فَعُلِّقَتْ فِي عُنُقِهِ وحسنه الترمذي.
وروى الدارقطني (3392) والبيهقي في معرفة السنن والآثار (12/ 411) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِذَا سَرَقَ السَّارِقُ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ) وصححه الألباني في الإرواء (2434).
فهذه أحاديث صريحة تبين أن السارق تقطع يده حقيقة، فإن عاد قطعت رجله.
والعجب أن يقف مؤمن عند آية من كتاب ربه، ثم لا يبحث عن تفسير نبيه وتطبيقه لها، وهل هذا إلا الضلال والحرمان؟!
ألم يقل الله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) النحل/44 ؟!
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله :
" فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان لبيان نص من كتاب الله، فهو على اللزوم والتحتم.
ولذا أجمع العلماء على قطع يد السارق من الكوع [الكوع: يعني من عند الرُّسْغين] ; لأن قطع النبي صلى الله عليه وسلم للسارق من الكوع : بيان وتفصيل لما أُجمل في قوله تعالى: ( فاقطعوا أيديهما ) [5 38] ؛ لأن اليد تطلق على العضو إلى المرفق، وإلى المنكب.
قال صاحب الضياء اللامع - في شرح قول صاحب جمع الجوامع : ووقوعه بيانا.. - ما نصه: الثاني: أن يكون فعله صلى الله عليه وسلم لبيان مجمل، إما بقرينة حال، مثل القطع من الكوع، فإنه بيان لقوله تعالى: ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) [5 38]" انتهى،من "أضواء البيان" (4/397) .
فحق على كل مؤمن أن يبحث عن تفسير نبيه وتطبيقه قبل أن يخوض فيما لا يحسن ولا يعلم.
ثم إن هذه الآية عمل بها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والتابعون لهم بإحسان، لم يختلفوا في وجوب قطع يد السارق، أي قطع كفه من مفصلها.
قال ابن قدامة رحمه الله: " لا خلاف بين أهل العلم في أن السارق أول ما يقطع منه، يده اليمنى، من مفصل الكف، وهو الكوع. وفي قراءة عبد الله بن مسعود: " فاقطعوا أيمانهما ". وهذا إن كان قراءة وإلا فهو تفسير. وقد روي عن أبي بكر الصديق وعمر - رضي الله عنهما -، أنهما قالا: إذا سرق السارق، فاقطعوا يمينه من الكوع. ولا مخالف لهما في الصحابة؛ ولأن البطش بها أقوى، فكانت البداية بها أردع؛ ولأنها آلة السرقة، فناسب عقوبته بإعدام آلتها.
وإذا سرق ثانيا، قطعت رجله اليسرى. وبذلك قال الجماعة إلا عطاء، حكي عنه أنه تقطع يده اليسرى؛ لقوله سبحانه: فاقطعوا أيديهما [المائدة: 38] . ولأنها آلة السرقة والبطش، فكانت العقوبة بقطعها أولى. وروي ذلك عن ربيعة، وداود. وهذا شذوذ، يخالف قول جماعة فقهاء الأمصار من أهل الفقه والأثر، من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، وهو قول أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -، وقد روى أبو هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في السارق إذا سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله" انتهى من المغني (9/ 121).
وينظر أيضا لمعرفة تفاصيل الإجماع على قطع يد السرق ، وما يتعلق بذلك من مسائل :
"الإجماع" لابن المنذر ، كتاب أحكام السُّرَّاق (127) ، "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان، أبواب الإجماع في الحد في السرقة (2/259) .
ثالثا:
ما جاء في هذه الشبهة السمجة من أن القطع في اللغة قد لا يراد به البتر، وذلك كقطع الرحم، جوابه أن يقال: حقيقة القطع هي الفصل والإبانة، وهذا ظاهر في الأشياء المحسوسة، وأما الأمور المعنوية كصلة الرحم، فيكون فيها الفصل معنويا أيضا.
قال ابن فارس في "معجم مقاييس اللغة" (5/101): " قَطَعَ: الْقَافُ وَالطَّاءُ وَالْعَيْنُ : أَصْلٌ صَحِيحٌ وَاحِدٌ، يَدُلُّ عَلَى صَرْمٍ وَإِبَانَةِ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ، يُقَالُ: قَطَعْتُ الشَّيْءَ أَقْطَعُهُ قَطْعًا. وَالْقَطِيعَةُ: الْهِجْرَانُ. يُقَالُ: تَقَاطَعَ الرَّجُلَانِ، إِذَا تَصَارَمَا " انتهى.
وقال ابن سيدة في "المحكم والمحيط الأعظم" (1/159): " القَطْع: إبانة بعض أَجزَاء الجرم من بعض فصلا. قطَعَه يقْطعُه قَطْعا، وقَطيعة، وقُطوعا" انتهى.
ومثله في لسان العرب (8/ 276).
رابعا:
سبق بيان وجه جمع (الأيدي) في الآية، والفرق بينها وبين (الأيد) التي معناها القوة، فانظر جواب السؤال رقم (272001) .
قال السيد رشيد رضا رحمه الله في المنار (6/ 314): " وإنما جمع اليد، ولم يقل يديهما ; لأن فصحاء العرب يستثقلون إضافة المثنى إلى ضمير التثنية ; أي الجمع بين تثنيتين، ومثله قوله تعالى: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) (66: 4) " انتهى.
ومن لا يفرق بين (أيد) وبين (أيدي) : فما علاقته بالعلم فضلا عن تفسير القرآن، أو القول في دين الله ؟!!
خامسا:
أما الآية الثانية وهي قوله تعالى: (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) : فإن معناها أن من تاب من السرقة تاب الله عليه وغفر ذنبه، ولم يؤاخذه في الآخرة.
فالسرقة يتعلق بها حقان: حق المخلوق المسروق ، وحق المجتمع الذي يراد حمايته وصيانه، ويتعلق بها أيضا ، أولَ شيء : حق الله تعالى .
فلو قطعت يد السارق ، ولم يتب : بقي عليه حق الله تعالى .
أما إن تاب وأصلح : فإن الله يغفر له ويتجاوز عنه.
ثم ليس كل من سرق يقام عليه حد السرقة ، بل منهم لا يعرف أمره ، ولا يرفع إلى الأمام ليقيم عليه الحد ؛ فهذا شرع له التوبة ، تسقط الحق فيما بينه وبين الله جل جلاله ، وأمر برد المظالم إلى أهلها ، ليسقط حق الناس عنده .
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (3/ 110): " قال تعالى: فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم : أي: من تاب بعد سرقته وأناب إلى الله، فإن الله يتوب عليه فيما بينه وبينه، فأما أموال الناس فلا بد من ردها إليهم أو بدلها عند الجمهور" انتهى.
سادسا:
أما العدل وكيف يقطع من سرق مليارا، ويقطع أيضا من سرق ألف دولار!
فإن هذا عين العدل بحمد الله.
فكل من سرق (ربع دينار) فصاعدا، قطعت يده، فلهذا لا يستهين أحد بالسرقة، ولا يقول السارق: أسرق ألف دولار لأني لن أقطع، ولا أسرق مليارا لأني سأقطع!
وساعتها بإمكانه أن يقسم المال الكثير إلى مرات ، حسب هذا التوهم الفاسد ، كل مرة ألفا ، أو يوزعه على أصحابه ، وعصابته؛ وهكذا ، يشتغلون دهرهم بالسرقة التي لا يقطعون فيها ؛ ثم لا يتوبون ، ولا هم ينزجرون !!
فأرادت الشريعة أن تحسم الباب ، وأن تجعل بين الإنسان والسرقة حاجزا عظيما ، وهو أن يعلم أنه لو سرق هذا القدر اليسير –وتحققت شروط القطع- أن يده ستقطع، فيكون ذلك أعظم زاجر ورادع له .
بخلاف ما لو قيل: يسجن سنوات، ثم يخرج، فتمتلئ الأرض بالسرقات، حتى تعدى الأمر إلى سرقة الأطفال وبيع أعضائهم ، لأن العقوبة البشرية ليست رادعة، (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) المائدة/50
ثم من قال إننا سنسوي بين من سرق مليارا ومن سرق ألف دولار؟!
فمن حيث اشتراكهما في جريمة السرقة فإنه تقطع أيديهما.
ومن حيث تفاوت المال، فإن كلا منهما مطالب برد المال إلى صاحبه، فلا يضيع حق صاحب المال، ولا يفرحن سارق المليار بما سرق، فإنه تقطع يده ويطالب بالمال.
ونصيحتنا لأختنا السائلة ألا تنظر في شبهات الملاحدة والمشككين وأعداء السنة، ولتحرص على قراءة ما ينفعها.
والله أعلم.
تعليق