الحمد لله.
من المستقر المعلوم: أنه لا يمكن معرفة حكم مسألة ما في الشريعة إلا بعد جمع الأدلة، والنصوص الواردة في المسألة، وهنا قد تتوافق الأدلة على حكم واحد ، وقد تتعارض ظاهريا بحيث يفيد أحدها الوجوب مثلا، والآخر الاستحباب ، أو يفيد أحدهما التحريم والآخر الكراهة . وهنا يسلك أهل العلم ثلاثة طرق ، إما الجمع ، وإما الترجيح ، وإما النسخ إن علم التاريخ .
وقال الإمام الشاطبي في "الاعتصام" (ص186) :" التعارض إذا ظهر لبادي الرأي في المقولات الشرعية، فإما أن لا يمكن الجمع بينهما أصلا ، وإما أن يمكن .
فإن لم يمكن فهذا الفرض: بين قطعي وظني ، أو بين ظنين .
فأما بين قطعيين : فلا يقع في الشريعة ولا يمكن وقوعه ، لأن تعارض القطعيين محال .
فإن وقع بين قطعي وظني بطل الظني .
وإن وقع بين ظنيين : فههنا للعلماء فيه الترجيح ؛ والعمل بالأرجح متعين .
وإن أمكن الجمع : فقد اتفق النظار على إعمال وجه الجمع ، وإن كان وجه الجمع ضعيفا ، فإن الجمع أولى عندهم ، وإعمال الأدلة أولى من إهمال بعضها ". انتهى.
قال ابن جزي في "تقريب الوصول إلى علم الأصول" (ص199) :
" إذا تعارض دليلان، فأكثر؛ ففي ذلك ثلاثة طرق:
- الأول: العمل بهما ، وذلك بالجمع بينهما على قدر الإمكان، ولو من وجه واحد ، وهذا أولى الطرق، لأنه ليس فيه اطراح لأحدهما.
- الثاني: ترجيح أحدهما على الآخر، بوجه من وجوه الترجيح المذكورة بعد.
- الثالث: نسخ أحدهما بالآخر، وشرطه معرفة المتقدم والمتأخر منهما ". انتهى
وهذه الطريقة عامة عند تعارض الأدلة ، ومنها أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله، ولا شك أنها من أعظم الحجج على دين الله ، والبينات على ما شرعه الله لعباده . قال الله تعالى : لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا الأحزاب/21.
إلا أنه في بعض المسائل قد يَرد قولُ النبي صلى الله عليه وسلم مخالفا لفعله ، وهنا تتبع بعض الخطوات :
الخطوة الأولى : التأكد من ثبوت دليل القول ودليل الفعل ، فإن كان دليل أحدهما ضعيفا، فالمقدم منهما : ما ثبت به الدليل، وصح به الإسناد.
الخطوة الثانية : هناك بعض الأفعال النبوية، دل الدليل على أنها من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن كان هذا الفعل من هذا القسم فلا تعارض إذا .
الخطوة الثالثة : إذا ثبت أن القول عام للأمة ، وكذلك الفعل ليس خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وتعارضا، في ظاهرهما، وبادي الرأي؛ فهنا نجمع بين القول والفعل بوجه من وجوه الجمع المذكورة في كتب أصول الفقه ، أي أن يعمل بالدليلين معا ، إذا أن إعمال الدليلين: أولى من إهمال أحدهما ، وذلك إن كان الجمع بينهما ممكنا ، ومثال ذلك :
- أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أمر بشيء، ما ثم دل فعله على ترك هذا الأمر ، فيحمل الأمر على الاستحباب، ورجحان جانب الفعل لا على الوجوب ، ويكون الترك النبوي مبينا لجواز الفعل والترك.
- وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن فعل شيء ما، ثم جاء عنه أنه فعله ، فيحمل النهي على الكراهة، وترجح جانب الترك ، ويكون الفعل مبينا للجواز، على نحو ما مضى في المستحب .
- أن يكون قول النبي صلى الله عليه وسلم عاما ، ثم يأتي الفعل ليخصص القول ، فيبقى العام على عمومه، إلا في هذه الصورة التي جاء الفعل النبوي بإخراجها عن حكم العام .
وهذا على سبيل المثال لا الحصر .
الخطوة الرابعة: إن لم يمكن الجمع بين القول والفعل ، فحينئذ نلجأ للترجيح ، أي ترجيح جانب القول، أو الفعل، بوجه من وجوه الترجيح ، مثل أن تحتف القرائن بأحدهما ، كعمل الصحابة على سبيل المثال .
الخطوة الخامسة: إن لم نجد مرجحا خارجيا، وعلمنا التاريخ ، فحينئذ ينسخ المتأخرُ المتقدم .
الخطوة السادسة: إن جهلنا التاريخ ، ولم يمكن الجمع بينهما بوجه من وجوه الجمع: فهنا من أهل العلم يقدم القول على الفعل، باعتباره أقوى في الدلالة والبيان ، ومنهم من يقدم الفعل، ويراه أقوى من مجرد القول ، ومنهم من يتوقف .
قال العلائي في "تفصيل الإجمال" (ص108) :" الجمع بين القول والفعل: على بعض الوجوه الممكنة ، وهي التي يسلكها المحققون في أفراد الأمثلة عن الكلام على بعض منها .
ولا شك في أن هذا أولى من تقديم أحدهما على الآخر، وإبطال مقتضى الآخر، ومن الوقف أيضا ؛ لأنا متعبدون بمضمون القول ، وباتباعه صلى الله عليه وسلم فيما فعله ؛ فما يجمع بين الدليلين: أولى من إلغاء أحدهما ، ولا وجه للوقف مع التعبد ". انتهى
وقال ابن عقيل في "الواضح في أصول الفقه" (4/166) :" إذا ثبتَ أنَّ الفعلَ يحصلُ به البيانُ، فإذا تعارض القولُ والفعلُ في البيان ، فالقولُ أَوْلى من الفعل .
ولأصحاب الشافعي وجهان: أحدهما: مثل قولنا، والثاني: الفعل أَوْلى من القول .
وقال بعض الأصوليين: هما سواءٌ في البيان ؛ القولُ والفعل ". انتهى.
وينظر للفائدة : جواب السؤال رقم (147416) ورقم (296702).
والله أعلم
تعليق