الحمد لله.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ: سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ( لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ ) رواه البخاري (5233) ومسلم (1341).
والمراد بالخلوة في هذا الحديث إنما هي الخلوة بالأجساد.
والعلة من هذا النهي؛ هي أن هذه الخلوة مظنة للوقوع في الحرام ، لأن فيها تمكينًا للشيطان من الوسوسة بذلك، وقد أشار إلى هذا قول رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (أَلَا لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ) رواه الترمذي (2165) وقال: " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ "، وقال الحاكم في "المستدرك" (1 / 114): " صحيح على شرط الشيخين "، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في "إرواء الغليل" (6 / 215).
قال المناوي رحمه الله تعالى:
" ( إلا كان الشيطان ثالثهما ) بالوسوسة، وتهييج الشهوة، ورفع الحياء، وتسويل المعصية، حتى يجمع بينهما بالجماع، أو فيما دونه من مقدماته التي توشك أن توقع فيه، والنهي للتحريم " انتهى، من "فيض القدير" (3 / 78).
فالنهي عن الخلوة بالأجنبية هو من باب سد الطرق الموصلة إلى الفواحش؛ وهذا من أصول شريعتنا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" والأصل أن كل ما كان سببا للفتنة فإنه لا يجوز، فإن الذريعة إلى الفساد يجب سدها ، إذا لم يعارضها مصلحة راجحة " انتهى، من "مجموع الفتاوى" (15 / 419).
ومحادثة الرجل للمرأة الأجنبية محادثة خاصة عبر مواقع التواصل – وإن لم تكن من الخلوة التي يذكرها الفقهاء - إلا أنه ذريعة للفتنة وسبب للفساد ؛ فيمنع منها لأجل ذلك .
وإذا كان النظر ، والمصافحة ، ونحو ذلك : ممنوعا منه ، سدا لذريعة الفتنة بالمرأة ، وإن لم يكن خلوة ؛ فمنع المحادثة الخاصة ، لا سيما بين الشباب ، ومن هم مظنة الفتنة : هو من هذا الباب أيضا .
وقد تضافرت نصوص الوحي على النهي عن الاستمتاع بالمرأة الأجنبية والتلذذ بصوتها والنظر إليها ، واعتبرت هذا نوعا من الزنا.
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ، فَزِنَا العَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ المَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ ) رواه البخاري (6243) ومسلم (2657) وزاد أحمد (27430) : (والآذان زناها الاستماع) .
وقد وصل الأمر ببعض هؤلاء إلى أن استهواهم الشيطان فهبطوا إلى هوة سحيقة من الانحطاط الخلقي والديني ، حيث تعرى بعضهم لبعض .
ولا شك أن للشيطان حبائل شتى ، يوقع بها الناس في الفساد ، والشهوات ، والفتن ؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِي النَّاسِ فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ .
رواه البخاري (5096) ومسلم (2741) واللفظ له .
وقد قال الله تعالى:
( يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ) الأعراف/27.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" فنهى بني آدم أن يفتتنوا بفتنة الشيطان ، كما فتن أبويهما، وذلك بمعصية الله وطاعة الشيطان في خلاف أمر الله ونهيه .
وأنه لما نزع عن الأبوين لباسهما ، فكذلك قد ينزع عن الذرية لباس التقوى ، ولباس البدن ؛ ليريهما سوءاتهما " انتهى، من "الاستقامة" (2 / 170).
فالحاصل؛ أن محادثة الرجل للمرأة الأجنبية عبر مواقع التواصل ، خفية عن باقي الزوار والمشتركين؛ ليست من الخلوة التي نُهي عنها .
لكنها تمنع لما فيها من الفتنة ، ومظنة الفساد .
فيجب على المسلم والمسلمة أن يتجنبا مثل هذا التواصل ، إلا لمصلحة دينية راجحة ، كاستفتاء أهل العلم، أو مصلحة دنيوية مشروعة ، ويكون الكلام بقدر الحاجة فقط ، بلا توسع أو تساهل .
والله أعلم.
تعليق