الحمد لله.
أولا :
سنة النبي صلى الله عليه وسلم قد حفظها الله تعالى بأهل الحديث الذين تلقوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم جيلا بعد جيل ، وضبطوها بقواعد علم الحديث ، ودونوها في مصنفات عظيمة نقلت إلينا بالأسانيد المتواترة الصحيحة .
وتعد الكتب الستة المشهورة وهي ( صحيح البخاري ، صحيح مسلم ، سنن أبي داود ، سنن النسائي ، سنن الترمذي ، سنن ابن ماجه ) أصول كتب السنة ، وأصحها إسنادا .
قال الحافظ ابن منده :" الحفاظ الذين أخرجوا الصحيح وميزوا الثابت من المعلول والخطأ من الصواب أربعة : أبو عبد الله البخاري ، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري ، وبعدهما أبو داود السجستاني ، وأبو عبد الرحمن النسائي ". انتهى من "معالم السنن" للخطابي (4/367) .
وقال المزي في مقدمة كتابة "تهذيب الكمال" (1/147) في معرض حديثه عن كتب السنة :" وكان من أحسنها تصنيفا ، وأجودها تأليفا ، وأكثرها صوابا ، وأقلها خطأ ، وأعمها نفعا ، وأعودها فائدة ، وأعظمها بركة ، وأيسرها مؤونة ، وأحسنها قبولا عند الموافق والمخالف ، وأجلها موقعا عند الخاصة والعامة: صحيح أَبِي عَبد اللَّهِ مُحَمَّد بْن إسماعيل البخاري ، ثم صحيح أبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري ، ثم بعدهما كتاب السنن لأبي داود سُلَيْمان بْن الأشعث السجستاني ، ثم كتاب الجامع لابي عِيسَى مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى التِّرْمِذِيّ ، ثم كتاب السنن لابي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبِ النَّسَائي ، ثم كتاب السنن لأبي عَبد الله مُحَمَّد بْن يزيد المعروف بابن ماجة القزويني وإن لم يبلغ درجتهم ". انتهى
ويعد كتاب سنن أبي داود من أعظم دواوين السنة بعد الصحيحين ، وذلك لشرف مصنفه ، وجودة أسانيده ، وحسن ترتيبه ، وجمعه أصول أحاديث الأحكام .
فأما مصنفه فهو الإمام الحجة الإِمَامُ أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ الأَشْعَثِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ بَشِيرٍ السِّجِسْتَانِيُّ ، ولد سنة 202هـ ، وتوفي سنة 275هـ ، أحد أكبر تلاميذ الإمام أحمد بن حنبل ، وشيخ الترمذي والنسائي .
وقد أثنى عليه أهل العلم ثناءً عظيما .
قال الخطيب في "تاريخ بغداد" (10/75) :" قال أبو بكر الخلال : أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني الإمام المقدم في زمانه ، رجل لم يسبقه إلى معرفته بتخريج العلوم ، وبصره بمواضعه ، أحد في زمانه ، رجل ورع مقدم ". انتهى
وقال الذهبي في ترجمته لأبي داود في كتاب "سير أعلام النبلاء" (13/211) :" قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ يَاسِيْنَ: كَانَ أَبُو دَاوُدَ أَحَدَ حُفَّاظِ الإِسْلاَمِ لِحَدِيْثِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعِلْمِهِ وَعِلَلِهِ وَسَنَدِهِ ، فِي أَعْلَى دَرَجَةِ النُّسْكِ وَالعَفَافِ ، وَالصَّلاَحِ وَالوَرَعِ ، مِنْ فُرْسَانِ الحَدِيْثِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ إِسْحَاقَ الصَّاغَانِيُّ ، وَإِبْرَاهِيْمُ الحَرْبِيُّ، لَمَّا صَنَّفَ أَبُو دَاوُدَ كِتَابَ السُّنَنِ : أُلِيْنَ لأَبِي دَاوُدَ الحَدِيْثُ ، كَمَا أُلِيْنَ لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ الحَدِيْدُ ...
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ بنُ حِبَّانَ: أَبُو دَاوُدَ أَحَدُ أَئِمَّةِ الدُّنْيَا فِقْهاً وَعِلْماً وَحِفْظا ً، وَنُسْكاً وَوَرَعاً وَإِتْقَاناً ، جَمَعَ وَصَنَّفَ وَذَبَّ عَنِ السُّنَنِ ". انتهى
ثانيا :
وأما كتابه السنن ، فقد أثنى عليه أهل العلم أعظم الثناء ، وقدموه على غيره .
قال أبو يحيى زكريا بن يحيى السَّاجي:" كتابُ الله عز وجل أصلُ الإِسلام ، وكتابُ "السنن" لأبي داودَ عهدُ الإسلام ". انتهى من "شرح الإلمام" لابن دقيق العيد (1/42) .
وقال ابن الأعرابي :" لو أنّ رجلا لم يكن عنده من العلم إلا المُصْحَف الَّذِي فِيهِ كتاب اللَّه ، ثم هذا الكتاب ، لم يحْتَجْ معهما إلى شيء من العلم بتة ". انتهى من "تاريخ الإسلام" للذهبي (8/632)
وقال الخطابي في "معالم السنن" (1/6) :" كتاب السنن لأبي داود كتاب شريف لم يصنف في علم الدين كتاب مثله ، وقد رزق القبول من الناس كافة ، فصار حكما بين فرق العلماء وطبقات الفقهاء على اختلاف مذاهبهم ، فلكل فيه ورد ومنه شرب ، وعليه معول أهل العراق وأهل مصر وبلاد المغرب ، وكثير من مدن أقطار الأرض ". انتهى
ثالثا :
وأما منهجه في كتابه فقد تولى أبو داود بنفسه التعريف بكتابه ومنهجه فيه في رسالته المشهورة بعنوان "رسالة أبي داود إلى أهل مكة" ، وهي مطبوعة ، وقد بين فيها منهجه في كتابه ، ونذكر من ذلك بعض النقاط :
النقطة الأولى : أن كتابه أصل في أحاديث الأحكام ، لم يخلطه بأحاديث الزهد والرقاق وفضائل الأعمال .
قال أبو داود في "رسالته لأهل مكة" (ص34) :" وَإِنَّمَا لم أصنف فِي كتاب السّنَن إِلَّا الْأَحْكَام وَلم أصنف كتب الزّهْد وفضائل الْأَعْمَال وَغَيرهَا ، فَهَذِهِ الْأَرْبَعَة آلَاف والثمانمائة كلهَا فِي الْأَحْكَام ، فَأَما أَحَادِيث كَثِيرَة فِي الزّهْد والفضائل وَغَيرهَا من غير هَذَا لم أخرجه ". انتهى
ويعد كتابه أصل في معرفة أحاديث الأحكام ، حتى قال الغزالي :" يَكْفِي الْمُجْتَهِدَ مَعْرِفَتُهَا من الأحاديث النبويّة " . نقله عنه ابن كثير في "البداية والنهاية" (11/55) .
وقال ابن القيم في حاشيته على سنن أبي داود المسماة "تهذيب السنن" (1/8) :" لما كان كتاب السنن لأبي داود رحمه الله من الإسلام بالموضع الذي خصه الله ، بحيث صار حكما بين أهل الإسلام ، وفصلاً في موارد النزاع والخصام ، فإليه يتحاكم المنصفون ، وبحكمه يرضي المحققون ، فإنه جمع شمل أحاديث الأحكام ، ورتبها أحسن ترتيب ونظمها أحسن نظام ، مع انتقائها أحسن انتقاء ، واطراحه منها أحاديث المجروحين والضعفاء ". انتهى
النقطة الثانية : أنه ذكر في الباب أصح ما وقف عليه .
قال أبو داود في "رسالته لأهل مكة" (ص22) :" فَإِنَّكُم سَأَلْتُم أَن أذكر لكم الْأَحَادِيث الَّتِي فِي كتاب السّنَن أَهِي أصح مَا عرفت فِي الْبَاب ووقفت على جَمِيع مَا ذكرْتُمْ ؟ فاعلموا أَنه كَذَلِك كُله ، إِلَّا أَن يكون قد روى من وَجْهَيْن صَحِيحَيْنِ ، فأحدهما أقوم إسنادا ، وَالْآخر صَاحبه أقدم فِي الْحِفْظ ، فَرُبمَا كتبت ذَلِك وَلَا أرى فِي كتابي من هَذَا عشرَة أَحَادِيث ". انتهى
النقطة الثالثة : أنه لم يرو في كتابه عن راو متروك عنده .
قال أبو داود في "رسالته لأهل مكة" (ص25) :" وَلَيْسَ فِي كتاب السّنَن الَّذِي صنفته عَن رجل مَتْرُوك الحَدِيث شَيْء ".
والمقصود بالمتروك في كلامه أي متروك عنده ، فقد يكون متروكا عند غيره ، غير متروك عنده، فيخرج حديثه .
قال ابن رجب في "شرح علل الترمذي" (2/613) في شرحه قوله ذلك :" ومراده أن لم يخرج لمتروك الحديث عنده ، على ما ظهر له ، أو لمتروك متفق على تركه ، فإنه قد خرج لمن قد قيل : إنه متروك ، ومن قد قيل : إنه متهم بالكذب ". انتهى
رابعا :
أما الأحاديث التي ذكرها في كتابه ، فليست في درجة واحدة ، بل فيها الصحيح ، والحسن لذاته ، والحسن لغيره .
قال أبو داود :" قال أبو بكر بن داسة سمعت أبا داود يقول :" كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث ، انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب ، يَعني كتاب السنن ، جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث ، ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه " . انتهى من "معالم السنن" للخطابي (4/365) .
فتبين بهذا النص منه أنه روى الصحيح وما يشبهه وما يقاربه ، وهو الحديث الحسن بنوعيه .
ولكن هل يخلو كتابه من الأحاديث الضعيفة ؟
فالجواب : أنه مع أن كتاب سنن أبي داود يُعد في المرتبة الثالثة بعد صحيح مسلم ، إلا أن وصفه بالصحة : تساهل، لأنه ليس كل ما فيه صحيح .
قال أبو الفضل العراقي في "شرح التبصرة والتذكرة" (1/168) :" ومَنْ أطلقَ الصحيحَ على كتبِ السُّنن فقد تساهَلَ ، كأبي طاهرٍ السِّلَفيِّ حيث قال في الكتبِ الخمسةِ : اتفقَ على صحتِها علماءُ المشرقِ والمغربِ . وكأبي عبدِ الله الحاكم حيثُ أطلقَ على الترمذيِّ الجامعَ الصحيحَ ، وكذلك الخطيبُ أطلقَ عليه ، وعلى النسائيِّ اسمَ الصحيحِ ". انتهى
ولذا لا يخلو كتابه من الأحاديث الضعيفة ، وقد ذكر ذلك أبو داود بنفسه في عدة مواضع :
الموضع الأول : أنه نص في رسالته لأهل مكة أنه روى في كتابه المراسيل ، إذا لم يكن في الباب غيره ، والمرسل من أنواع الضعيف كما هو معلوم .
قال أبو داود في "رسالته لأهل مكة" (ص25) :" وَأما الْمَرَاسِيل : فقد كَانَ يحْتَج بهَا الْعلمَاء فِيمَا مضى ، مثل سُفْيَان الثَّوْريّ وَمَالك بن أنس وَالْأَوْزَاعِيّ ، حَتَّى جَاءَ الشَّافِعِي فَتكلم فِيهَا ، وَتَابعه على ذَلِك أَحْمد بن حَنْبَل وَغَيره رضوَان الله عَلَيْهِم ، فَإِذا لم يكن مُسْند غير الْمَرَاسِيل ، وَلم يُوجد الْمسند : فالمرسل يحْتَج بِهِ ، وَلَيْسَ هُوَ مثل الْمُتَّصِل فِي الْقُوَّة ". انتهى
وقال في "رسالته لأهل مكة" (ص30) في موضع آخر :" وَإِن من الْأَحَادِيث فِي كتابي السّنَن مَا لَيْسَ بِمُتَّصِل ، وَهُوَ مُرْسل ومدلس ، وَهُوَ إِذا لم تُوجد الصِّحَاح عِنْد عَامَّة أهل الحَدِيث على معنى أَنه مُتَّصِل ". انتهى
الموضع الثاني : أنه نص أنه سيروي أحاديث ضعيفة شديدة الضعف سينوه على ضعفها .
قال أبو داود في "رسالته لأهل مكة" (ص27) :" وَمَا كَانَ فِي كتابي من حَدِيث فِيهِ وَهن شَدِيد فقد بَينته ، وَمِنْه مَالا يَصح سَنَده ". انتهى
وهناك أحاديث ذكرها وسكت عليها ، وقد نص على أنه سيروي أحاديث سيسكت عنها هي صالحة .
فقال في "رسالته لأهل مكة" (ص27) :" مَا لم أذكر فِيهِ شَيْئا فَهُوَ صَالح ، وَبَعضهَا أصح من بعض ". انتهى
واختلف أهل العلم في تفسير قوله " فهو صالح " ، فمنهم من رأى أن معناه أنه " حسن " ، ومنهم من قال : معناه : أنه " صالح للاحتجاج" ، أي قد يكون ضعيفا ، وليس في الباب غيره ، وقد ينجبر ، وهذا القول هو ما رجحه المحققون من أهل العلم ، مثل الذهبي ، وابن حجر ، والسخاوي .
قال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (13/213) :" قَالَ ابْنُ دَاسَةَ: سَمِعْتُ أَبَا دَاوُدَ ، يَقُوْلُ: ذَكَرْتُ فِي السُّنَنِ الصَّحِيْحَ وَمَا يُقَارِبَهُ ، فَإِنْ كَانَ فِيْهِ وَهْنٌ شَدِيدٌ بَيَّنْتُهُ .
قُلْتُ ( أي الذهبي ) : فَقَدْ وَفَّى -رَحِمَهُ اللهُ- بِذَلِكَ بِحَسَبِ اجتِهَادِهِ ، وَبَيَّنَ مَا ضَعْفُهُ شَدِيْدٌ ، وَوَهْنُهُ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ ، وَكَاسَرَ عَنْ مَا ضَعْفُهُ خَفِيْفٌ مُحْتَمَلٌ ، فَلاَ يَلْزَمُ مِنْ سُكُوْتِهِ - وَالحَالَةِ هَذِهِ - عَنِ الحَدِيْثِ أَنْ يَكُونَ حَسَناً عِنْدَهُ ، وَلاَ سِيَمَا إِذَا حَكَمْنَا عَلَى حَدِّ الحَسَنِ بِاصطِلاَحِنَا المولَّد الحَادِث ، الَّذِي هُوَ فِي عُرْفِ السَّلَفِ يَعُودُ إِلَى قِسمٍ مِنْ أَقسَامِ الصَّحِيْحِ ، الَّذِي يَجِبُ العَمَلُ بِهِ عِنْدَ جُمْهُوْرِ العُلَمَاءِ ، أَوِ الَّذِي يَرْغَبُ عَنْهُ أَبُو عَبْدِ اللهِ البُخَارِيُّ ، وَيُمَشِّيَهُ مُسْلِمٌ ، وَبَالعَكْسِ ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي أَدَانِي مَرَاتِبِ الصِّحَّةِ ، فَإِنَّهُ لَوْ انْحَطَّ عَنْ ذَلِكَ لخَرَجَ عَنِ الاحْتِجَاجِ ، وَلَبَقِيَ مُتَجَاذَباً بَيْنَ الضَّعْفِ وَالحسَنِ .
فَكِتَابُ أَبِي دَاوُدَ أَعْلَى مَا فِيْهِ مِنَ الثَّابِتِ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ ، وَذَلِكَ نَحْو مِنْ شَطْرِ الكِتَابِ ، ثُمَّ يَلِيْهِ مَا أَخْرَجَهُ أَحَدُ الشَّيْخَيْنِ ، وَرَغِبَ عَنْهُ الآخَرُ ، ثُمَّ يَلِيْهِ مَا رَغِبَا عَنْهُ ، وَكَانَ إِسْنَادُهُ جَيِّداً ، سَالِماً مِنْ عِلَةٍ وَشُذُوْذٍ ، ثُمَّ يَلِيْهِ مَا كَانَ إِسْنَادُهُ صَالِحاً ، وَقَبِلَهُ العُلَمَاءُ لِمَجِيْئِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ لَيِّنَيْن فَصَاعِداً ، يَعْضُدُ كُلُّ إِسْنَادٍ مِنْهُمَا الآخَرُ ، ثُمَّ يَلِيْهِ مَا ضُعِّفَ إسنَادُهُ لِنَقْصِ حِفْظِ رَاوِيهِ ، فَمِثْلُ هَذَا يُمَشِّيْهِ أَبُو دَاوُدَ ، وَيَسْكُتُ عَنْهُ غَالِباً ، ثُمَّ يَلِيْهِ مَا كَانَ بَيِّنَ الضَّعْفِ مِنْ جِهَةِ رَاوِيْهِ ، فَهَذَا لاَ يَسْكُتُ عَنْهُ ، بَلْ يُوْهِنُهُ غَالِباً ، وَقَدْ يَسْكُتُ عَنْهُ بِحَسْبِ شُهْرَتِهِ وَنَكَارَتِهِ ، وَاللهُ أَعْلَمُ ". انتهى
وقال ابن حجر في "النكت على ابن الصلاح" (1/435) :" ومن هنا يتبين أن جميع ما سكت عليه أبو داود : لا يكون من قبيل الحسن الاصطلاحي. بل هو على أقسام:
منه ما هو في الصحيحين أو على شرط الصحة ، ومنه ما هو من قبيل الحسن لذاته ، ومنه ما هو من قبيل الحسن إذا اعتضد ، وهذان القسمان كثير في كتابه جدا.
ومنه ما هو ضعيف ، لكنه من رواية من لم يجمع على تركه غالبا. وكل هذه الأقسام عنده تصلح للاحتجاج بها ". انتهى
ولذا لا يجوز الاعتماد على سكوت أبي داود في سننه على بعض الأحاديث ، لأنه قد يسكت على حديث ضعيف جدا ، وضعفه ظاهر ، ولأجل ذلك لم يبينه .
قال النووي في "الإيجاز في شرح سنن أبي داود" (ص47) :" واعلم أنه وقع في "سنن أبي داود" أحاديث ظاهرة الضعف لم يُبَيِّنْها ، مع أنها مُتفقٌ على ضَعْفها عند المحدثين: كالمرسل والمنقطع ، وروايته عن مجهول: كشيخ ورجلٍ ونحوه. فقد يقال: إن هذا مخالف لقوله: "ما كان فيه وهن شديد بَيَّنْتُه"!
وجوابه: أنه لمَّا كان ضعف هذا النوع ظاهرًا ، استغنى بظهوره عن التصريح ببيانه ". انتهى
وقال ابن حجر في "النكت على ابن الصلاح" (1/439) :
" فلا ينبغي للناقد أن يقلده في السكوت على أحاديثهم ، ويتابعه في الاحتجاج بهم ، بل طريقه أن ينظر هل لذلك الحديث متابع فيعتضد به ، أو غريب فيتوقف فيه؟
ولا سيما إن كان مخالفا لرواية من هو أوثق منه ، فإنه ينحط إلى قبيل المنكر ، وقد يخرج لمن هو أضعف من هؤلاء بكثير كالحارث بن وجيه ، وصدقه الدقيقي ، وعثمان بن واقد العمري ، ومحمد بن عبد الرحمن البيلماني ، وأبي جناب الكلبي ، وسليمان بن أرقم ، وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة ، وأمثالهم من المتروكين.
وكذلك ما فيه من الأسانيد المنقطعة ، وأحاديث المدلسين بالعنعنة ، والأسانيد التي فيها من أبهمت أسماؤهم ، فلا يتجه الحكم لأحاديث هؤلاء بالحسن من أجل سكوت أبي داود ؛ لأن سكوته تارة يكون اكتفاء بما تقدم له من الكلام في ذلك الراوي في نفس كتابه ، وتارة يكون لذهول منه ، وتارة يكون لشدة وضوح ضعف ذلك الراوي واتفاق الأئمة على طرح روايته ، كأبي الحويرث ويحيى بن العلاء وغيرهم ...
وأما الأحاديث التي في إسنادها انقطاع أو إبهام ، ففي الكتاب من ذلك أحاديث كثيرة... فالصواب عدم الاعتماد على مجرد سكوته ، لما وصفنا أنه يحتج بالأحاديث الضعيفة ، ويقدمها على القياس إن ثبت ذلك عنه ". انتهى
فتبين مما سبق منهج الإمام أبي داود في سننه ، وأنها من أجود كتب السنة إسنادا بعد الصحيحين ، إلا أن فيه أحاديث ضعيفة .
وقد قام الشيخ الألباني رحمه الله بتحقيق الكتاب ، وقسمه إلى قسمين : "صحيح سنن أبي داود" ، و"ضعيف سنن أبي داود " .
والله أعلم .
تعليق