الحمد لله.
قوله تعالى: ( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) آل عمران/ 55.
وعدٌ من الله تعالى لأتباع عيسى عليه السلام أن يجعلهم فوق أهل الكفر إلى يوم القيامة .
وقد اختلف أهل العلم فيمن عناهم الله تعالى بالذين اتبعوا عيسى عليه السلام ، في هذه الآية:
1- فقال بعضهم : إن أتباعه هم أهل الإيمان في زمانه، وأهل الإسلام بعد بعثة رسول الله. وبيان ذلك : أن اتباع عيسى عليه السلام يقتضي الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذه الفوقية بحسبها .
يقول ابن عطية : " قال جمهور المفسرين بعموم اللفظ في المتبعين ، فيدخل في ذلك أمة محمد لأنها متبعة لعيسى ... ، وكذلك قالوا بعموم اللفظ في الكافرين .
فمقتضى الآية : إعلام عيسى عليه السلام أن أهل الإيمان به - كما يجب - هم فوق الذين كفروا ، بالحجة والبرهان، وبالعزة والغلبة " .
2- وقال بعضهم، وجاعل النصارى فوق اليهود، وهو ظاهر .
فتكون الآية مخبرة عن: " إذلال اليهود وعقوبتهم ، بأن النصارى فوقهم في جميع أقطار الأرض إلى يوم القيامة " .
وقال بعض أهل التفسير: " إن المراد : المتبعون له في وقت استنصاره ، وهم الحواريون جعلهم الله فوق الكافرين ، لأنه شرفهم وأبقى لهم في الصالحين ذكرا، فهم فوقهم بالحجة والبرهان، وما ظهر عليهم من أمارات رضوان الله ".
انظر: "تفسير الطبري" (5/ 453 - 455) ، و"تفسير ابن عطية" (1/ 444 - 445).
ثم اختلف العلماء أيضًا في المراد بالفوقية هنا :
1- فقال بعضهم: أنها فوقية دينية، وهي فضلهم عليهم في حسن الأخلاق، وكمال الآداب، والقرب من الحق، والبعد من الباطل.
2- وقال بعضهم: إنها فوقية دنيوية: وهي كونهم أصحاب السيادة عليهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمة: " وأما قوله تعالى: ( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) آل عمران/ 55 ، فهذا حق كما أخبر الله به ؛ فمن اتبع المسيح - عليه السلام - جعله الله فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ، وكان الذين اتبعوه على دينه الذي لم يبدل ، قد جعلهم الله فوق اليهود .
وأيضا : فالنصارى فوق اليهود الذين كفروا به إلى يوم القيامة.
وأما المسلمون فهم مؤمنون به ، ليسوا كافرين به ، بل لما بدل النصارى دينه ، وبعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - بدين الله الذي بعث به المسيح وغيره من الأنبياء ، جعل الله محمدا وأمته فوق النصارى إلى يوم القيامة ...
فكل من كان أتم إيمانا بالله ورسله كان أحق بنصر الله تعالى" انتهى من "الجواب الصحيح"(2/ 178).
ويقول الإمام ابن كثير: " ( وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ):
وهكذا وقع؛ فإن المسيح، عليه السلام، لما رفعه الله إلى السماء تفرقت أصحابه شيعا بعده؛ فمنهم من آمن بما بعثه الله به على أنه عبد الله ورسوله وابن أمته، ومنهم من غلا فيه فجعله ابن الله، وآخرون قالوا: هو الله. وآخرون قالوا: هو ثالث ثلاثة. وقد حكى الله مقالاتهم في القرآن، ورد على كل فريق .
فاستمروا كذلك قريبا من ثلاثمائة سنة، ثم نبغ لهم ملك من ملوك اليونان، يقال له: قسطنطين، فدخل في دين النصرانية، قيل: حيلة ليفسده، فإنه كان فيلسوفا، وقيل: جهلا منه، إلا أنه بدل لهم دين المسيح وحرفه، وزاد فيه ونقص منه . ووضعت له القوانين والأمانة الكبيرة -التي هي الخيانة الحقيرة-وأحل في زمانه لحم الخنزير، وصلوا له إلى المشرق ، وصوروا له الكنائس، وزادوا في صيامهم عشرة أيام من أجل ذنب ارتكبه، فيما يزعمون.
وصار دين المسيح ، دين قسطنطين إلا أنه بنى لهم من الكنائس والمعابد والصوامع والديارات ما يزيد على اثني عشر ألف معبد، وبنى المدينة المنسوبة إليه، واتبعه الطائفة الملكية منهم.
وهم في هذا كله قاهرون لليهود، أيدهم الله عليهم لأنهم أقرب إلى الحق منهم، وإن كان الجميع كفارا، عليهم لعائن الله.
فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، فكان من آمن به يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله على الوجه الحق ، كانوا هم أتباع كل نبي على وجه الأرض ؛ إذ قد صدقوا الرسول النبي الأمي، خاتم الرسل، وسيد ولد آدم، الذي دعاهم إلى التصديق بجميع الحق، فكانوا أولى بكل نبي من أمته، الذين يزعمون أنهم على ملته وطريقته، مع ما قد حرفوا وبدلوا.
ثم لو لم يكن شيء من ذلك ، لكان قد نسخ الله بشريعته شريعة جميع الرسل ، بما بعث به محمدا صلى الله عليه وسلم من الدين الحق، الذي لا يغير ولا يبدل إلى قيام الساعة، ولا يزال قائما منصورا ظاهرا على كل دين.
فلهذا فتح الله لأصحابه مشارق الأرض ومغاربها، واحتازوا جميع الممالك، ودانت لهم جميع الدول، وكسروا كسرى، وقصروا قيصر، وسلبوهما كنوزهما، وأنفقت في سبيل الله، كما أخبرهم بذلك نبيهم عن ربهم، عز وجل، في قوله: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا الآية [النور: 65] .
ولهذا لما كانوا هم المؤمنين بالمسيح حقا ، سلبوا النصارى بلاد الشام ، وأجلوهم إلى الروم، فلجؤوا إلى مدينتهم القسطنطينية، ولا يزال الإسلام وأهله فوقهم إلى يوم القيامة.
وقد أخبر الصادق المصدوق أمته : بأن آخرهم سيفتحون القسطنطينية، ويستفيؤون ما فيها من الأموال، ويقتلون الروم مقتلة عظيمة جدا، لم ير الناس مثلها ، ولا يرون بعدها نظيرها" انتهى من "تفسير ابن كثير" (2/ 48). وينظر : "هداية الحيارى" (1/ 340).
والحاصل :
أن الله أخبر أن من اتبع عيسى عليه السلام حق الاتباع، وهم من آمن به في حياته، وآمن برسول الله محمد بعد بعثته، أنهم فوق الذين كفروا بالحجة والبرهان إلى يوم القيام ؛ فحجتهم أتم، وغلبتهم ظاهرة .
وأنهم ، إن اتبعوا الرسول حقًا، فإن الله سينصرهم ويؤيدهم بالعزة والغلبة على الذين كفروا .
والله أعلم .
تعليق