الحمد لله.
أولا:
للدولة أن تقيد المباح تحقيقا للمصلحة العامة، كأن لا تسمح بالحج لمن سبق له ذلك، لتتسع الحصة المسموحة لها لمن لم يحج.
ويلزم حينئذ طاعتها وامتثال أمرها.
قال في "تحفة المحتاج" (3/71): "الذي يظهر أن ما أُمر به مما ليس فيه مصلحة عامة لا يجب امتثاله إلا ظاهرا فقط، بخلاف ما فيه ذلك يجب باطنا أيضا" انتهى.
ثانيا:
الذي يظهر أن حق الدولة في هذه المسألة: منع من حج من بلده، لأنه استفاد من حصة بلده في الحج، وأما من حج من خارج بلده، فلا وجه لمنعه، ولو أن يستعمل التورية في قسمه، فينوي أنه لم يحج سابقا مطلقا؛ أي من بلده.
قال ابن قدامة رحمه الله: " مسألة: قال: وإذا حلف، فتأول في يمينه، فله تأويله إذا كان مظلوما.
وإن كان ظالما، لم ينفعه تأويله، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (يمينك على ما يصدقك به صاحبك).
معنى التأويل: أن يقصد بكلامه محتَمَلا يخالف ظاهره، نحو أن يحلف: إنه أخي، يقصد أخوة الإسلام، أو المشابهة، أو يعني بالسقف والبناء السماء، وبالبساط والفراش الأرض، وبالأوتاد الجبال , وباللباس الليل ... أو يقول: ما لفلان عندي وديعة، ولا شيء. يعني ب " ما " " الذي ". أو يقول: ما فلان هاهنا. ويعني موضعا بعينه. أو يقول: والله ما أكلت من هذا شيئا، ولا أخذت منه. يعني الباقي بعد أخذه وأكله.
فهذا وأشباهه مما يسبق إلى فهم السامع خلافه، إذا عناه بيمينه، فهو تأويل؛ لأنه خلاف الظاهر.
ولا يخلو حال الحالف المتأول، من ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يكون مظلوما، مثل من يستحلفه ظالم على شيء، لو صدَقه لظلمه، أو ظلم غيره , أو نال مسلما منه ضرر؛ فهذا له تأويله. قال مهنا: سألت أحمد، عن رجل له امرأتان، اسم كل واحدة منهما فاطمة، فماتت واحدة منهما، فحلف بطلاق فاطمة، ونوى التي ماتت؟ قال: إن كان المستحلف له ظالما، فالنية نية صاحب الطلاق، وإن كان المطلِّق هو الظالم، فالنية نية الذي استحلف.
وقد روى أبو داود، بإسناده عن سويد بن حنظلة، قال: خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدو له، فتحرج القوم أن يحلفوا , فحلفت أنه أخي، فخلى سبيله، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: (أنت أبرُّهم وأصدقُهم، المسلم أخو المسلم) [صححه الألباني في صحيح أبي داود].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب) [ضعيف، وصح موقوفا عن عمر. ينظر: "صحيح الأدب المفرد" (857). يعني سعة المعاريض التي يوهم بها السامع غيرَ ما عناه.
قال محمد بن سيرين: الكلام أوسع من أن يكذب ظريف. يعني: لا يحتاج أن يكذب؛ لكثرة المعاريض، وخص الظريف بذلك؛ يعني به الكيس الفطن، فإنه يفطن للتأويل، فلا حاجة به إلى الكذب.
الحال الثاني: أن يكون الحالف ظالما، كالذي يستحلفه الحاكم على حق عنده، فهذا ينصرف يمينه إلى ظاهر اللفظ الذي عناه المستحلف، ولا ينفع الحالف تأويله. وبهذا قال الشافعي، ولا نعلم فيه مخالفا؛ فإن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينك على ما يصدقك به صاحبك رواه مسلم وأبو داود.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمين على نية المستحلف. رواه مسلم.
وقالت عائشة: اليمين على ما وقع للمحلوف له؛ ولأنه لو ساغ التأويل، لبطل المعنى المبتغى باليمين؛ إذ مقصودها تخويف الحالف ليرتدع عن الجحود، خوفا من عاقبة اليمين الكاذبة، فمتى ساغ التأويل له، انتفى ذلك، وصار التأويل وسيلة إلى جحد الحقوق، ولا نعلم في هذا خلافا.
قال إبراهيم في رجل استحلفه السلطان بالطلاق على شيء، فورّى في يمينه إلى شيء آخر: أجزأ عنه، وإن كان ظالما لم تجزئ عنه التورية.
الحال الثالث: لم يكن ظالما ولا مظلوما، فظاهر كلام أحمد، أن له تأويله ... وهذا مذهب الشافعي. ولا نعلم في هذا خلافا" انتهى من "المغني" (9/420).
والله أعلم.
تعليق