الحمد لله.
أولا:
حكم غسل الكفين في أول الوضوء
غسل الكفين في أول الوضوء سنة باتفاق العلماء، إلا إذا كان قائما من النوم، ففي وجوب غسلهما خلاف.
قال ابن قدامة رحمه الله: " غسل اليدين في أول الوضوء مسنون في الجملة، سواء قام من النوم أو لم يقم؛ لأنها التي تُغمس في الإناء ، وتنقل الوضوء إلى الأعضاء؛ ففي غسلهما إحراز لجميع الوضوء، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله، فإن عثمان - رضي الله عنه - وصف وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ( دعا بالماء فأفرغ على كفيه ثلاث مرات، فغسلهما، ثم أدخل يده في الإناء ). متفق عليه. وكذلك وصف علي وعبد الله بن زيد، وغيرهما.
وليس ذلك بواجب عند غير القيام من النوم، بغير خلاف نعلمه.
فأما عند القيام من نوم الليل، فاختلفت الرواية في وجوبه" انتهى من "المغني" (1/ 73).
والدليل على عدم وجوبه: عدم الأمر به لا في القرآن ولا في السنة.
ومجرد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك: لا يدل على الوجوب، وإلا لكانت أفعال الوضوء كلها واجبة.
وينظر للأهمية جواب سؤال: (لماذا لا نقول بوجوب الجهر في الصلاة الجهرية؟).
ثانيا:
حكم المضمضة والاستنشاق في الوضوء
أما المضضمة والاستنشاق : ففي وجوبها خلاف.
ودليل من أوجبهما:
1-أنهما داخلان في الوجه المأمور بغسله.
2- ورود الأمر بهما في السنة. فقد روى أبو داود من حديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه قال: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي، عَنِ الْوُضُوءِ، قَالَ: أَسْبِغِ الْوُضُوءَ، وَخَلِّلْ بَيْنَ الْأَصَابِعِ، وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا .
وفي رواية أنه قال: إِذَا تَوَضَّأْتَ فَمَضْمِضْ والحديث صححه الألباني في "صحيح أبي داود".
وقال صلى الله عليه وسلم: إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرَيْهِ مِنْ الْمَاءِ ثُمَّ لِيَنْتَثِرْ رواه مسلم (237).
وقال: إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلِيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً ثُمَّ لِيَنْتَثِرْ رواه مسلم (237).
وروى البخاري (161) : مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ .
وإلى القول بالوجوب ذهب أحمد وأبو ثور وإسحاق وابن أبي ليلى .
وينظر: المغني (1/83) ، "الموسوعة الفقهية" (32/187).
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم : (153791).
ومما يؤكد هذا المعنى أن النبي صلى الله عليه قال للرجل المسيء في صلاته: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَتَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ رواه الترمذي (302)، وأبو داود (861)، وصححه الألباني.
وهذا يدل على أن الواجب المجزئ أن يأتي بما في آية المائدة: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ المائدة/6.
وهذا الحديث من حجة الجمهور على عدم وجوب أمر زائد على آية الوضوء، كالتسمية، والمضمضة والاستنشاق، وقالوا: إن الأمر بهما يحمل على الندب.
قال العراقي رحمه الله في شرح حديث: (إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخريه من الماء، ثم ليستنثر): "استدل به أحمد وأبو ثور على وجوب الاستنشاق لظاهر الأمر، وهو قول ابن أبي ليلى وإسحاق أيضا حكاه الخطابي عنهما.
وحمله الجمهور مالك والشافعي وأهل الكوفة على الندب لقوله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي: توضأ كما أمرك الله وليس في الآية ذكر الاستنشاق" انتهى من "طرح التثريب" (2/ 52).
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: "وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ: عَدَمُ الْوُجُوبِ، وَحَمَلَا الْأَمْرَ عَلَى النَّدْبِ، بِدَلَالَةِ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأَعْرَابِيِّ تَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ ؛ فَأَحَالَهُ عَلَى الْآيَةِ، وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الِاسْتِنْشَاقِ" انتهى من "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" (1/ 67).
لكنَّ الموجبين للمضمضة والاستنشاق يقولون: إن الوجوب استفيد من كون الفم والأنف داخلين في (الوجه) المأمور بغسله في آية الوضوء.
ثالثا:
هل كل ما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام فهو واجب على أمته؟
وأما ما ذكره السائل من قول الله تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ النساء/64، والاستدلال به على أن ما فعله الرسول فهو واجب، يعني: في حق الأمة، أو على وجوب الأفعال المذكورة في الوضوء: ففيه نظر، ولم نر من استدل بذلك، من أهل العلم ، على وجوب متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، في كل فعل فعله، مع أن الخلاف في دلالة أفعال الرسول: وهل هي على الوجوب ، أو الاستحباب، أو الإباحة، أو بحسب ما بينته: هذا كله خلاف معروف لأهل العلم، وفيها كتب مخصوصة اعتنت ببحثه.
وينظر: "المحقق من الأصول فيما يتعلق بأفعال الرسول" للإمام أبي شامة المقدسي، الطبعة المحققة (298) وما بعدها.
ومع ذلك فلم نقف على الاستدلال بذلك على وجوب أفعال الرسول، صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أن طاعته صلى الله عليه وسلم إنما تحصل بالإيمان به، والتسليم لنبوته ورسالته، والأخذ عنه، وطاعته فيما أمر، والانتهاء عما نهى عنه وزجر، وتحريم ما حرم، واستباحة ما أباح، ونحو ذلك؛ ولا يلزم من ذلك بوجه أن يكون كل ما فعله ، فهو واجب على أمته .
قال الإمام الطبري، رحمه الله: " القول في تأويل قوله: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولم نرسل، يا محمد، رسولا إلا فرضت طاعته على من أرسلته إليه. يقول تعالى ذكره: فأنت، يا محمد، من الرسل الذين فرضت طاعتهم على من أرسلتُه إليه.
وإنما هذا من الله توبيخ للمحتكمين من المنافقين = الذين كانوا يزعمون أنهم يؤمنون بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم = فيما اختصموا فيه إلى الطاغوت، صدودًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول لهم تعالى ذكره: ما أرسلتُ رسولا إلا فرضت طاعته على من أرسلته إليه، فمحمد صلى الله عليه وسلم من أولئك الرسل، فمن ترك طاعته والرِّضى بحكمه واحتكم إلى الطاغوت، فقد خالف أمري، وضيَّع فرضي" انتهى من "تفسير الطبري" (8/515-516).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " ما قيل إنه مستحبّ للأمة ، قد ندبهم إليه الرسول ورغّبهم فيه: فلا بدّ له من دليل يدل على ذلك، ولا يضاف إلى الرسول إلا ما صدر عنه.
والرسول هو الذي فرض الله على جميع الخلق الإيمان به، وطاعته، واتباعه، وإيجاب ما أوجبه، وتحريم ما حرّمه، وشرع ما شرّعه، وبه فرق الله بين الهدى والضلال، والرشاد والغي، والحق والباطل، والمعروف والمنكر، وهو الذي شهد الله له بأنه يدعو إليه بإذنه ويهدي إلى صراط مستقيم، وأنه على صراط مستقيم. وهو الذي جعل الرب طاعته طاعة له، في مثل قوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ النساء/80، وقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ النساء:/64 .." انتهى من "الرد على الإخنائي" (128).
وينظر: حول أفعال الرسول، ودلالتها الأصولية: " المسودة" لآل تيمية (64-67) ، أفعال الرسول ودلالتها التشريعية، د. محمد العروسي (145) وما بعدها .
والحاصل:
أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم لا يستدل بها على الوجوب، بل يستدل بها على المشروعية، وأنها محل الأسوة والاقتداء، حتى يرد دليل الوجوب، ولو دلت على الوجوب بمجردها لكانت تفاصيل العبادات من الوضوء والصلاة والحج كلها واجبة.
وينظر للفائدة أيضا: جواب السؤال رقم:(258503)، ورقم:(149523)، ورقم : (118100).
والله أعلم.
تعليق