الحمد لله.
أولا :
هون عليك ، يا عبد الله ؛ فالأمر أيسر من ذلك .
هون عليك ؛ فإن الجماء الغفير ، والجمهور الأعظم ، بل عامة المسلمين ، شرقا وغربا : لم يسمع أحد منهم ، في حياته قط : عن هذا الراوي الذي تذكره ( هشام بن حجير ) .
ولو سألت ألف رجل وامرأة تلقاهم ، ما درى من الألف فيهم واحد ، عن ابن حجير ...
ولو حبستهم في غرفة ، وقلت لهم : تشاجروا ، إن شئتم ، أو تصالحوا ، حول هشام ... ما نظروا في أمره أصلا ، ولانشغلوا بأمر آخر يعرفونه ...
هون عليك ، فليس كلما اختلف أهل العلم في شيء ، أو في مسألة من مسائل العلم ، ودقيقه ، صلح أن يدخل فيها عامة الناس ، أصلا ، فضلا عن أن يخترع لهم صراع ، وشجار حولها ؛ فما لعامة المسلمين ، ولهشام بن حجير ؟
إنما هذه مسألة من دقائق علم الحديث ، أن يعرف الراوي ، وحاله ، ولا يشتغل بذلك ، ولا يعتني به ، إلا المختصون في ذلك العلم ، الذي يعرفون : كيف تكون ثمرة الوفاق ، أو الخلاف في هذا الراوي ، وأمثاله .
وأما أن يتكلف ذلك : من لا يعرفه ، ولا يحسنه ، ولا يقف له على زمام ، من خطام : فتلك بلية ، نعوذ بالله من شرها .
ثم : أن يزيد هؤلاء المتكلفون ، فيتشاجرون ، ويفتتنون ، بما لا يفهمون ؛ فتلك الداهية الدهياء ، والبلية الصماء ، وداء ، ليس له من دواء ؛ إلا أن ينصحوا لأنفسهم ، ويتوبوا إلى ربهم ، من الشجار ، وفساد ذات البين ، في أمر تكلفوه ، وليس من شأنهم أصلا ؛ فضلا عن أن يختلفوا حوله ، فضلا عن أن يتشاجروا ... أو يفتتنوا !!
وقد قال أبو حامد الغزالي ، رحمه الله :
لو سكت من لا يدري ؛ لقل الخلاف !!
فلو سكت هؤلاء ، لكان خيرا لهم ، وأقوم سبيلا !!
فاللهَ اللهَ ، في أنفسكم ، وفي دينكم ، وفي صلاح ذات بينكم !!
ثانيا :
هشام بن حجير ، من أهل مكة ، وكان فقيها .
في "العلل" لأحمد (825) :" قَالَ ابن عُيَيْنَة : قَالَ ابن شبْرمَة لَيْسَ بِمَكَّة أفقه مِنْهُ ، يَعْنِي هِشَام بن حُجَيْر ". انتهى
وقد اختلف أهل العلم فيه ، وبيان أقوالهم كما يلي :
القول الأول : وهو قول أكثر المحدثين ، وهو أنه ضعيف يكتب حديثه ولا يترك ، ويصلح في المتابعات والشواهد .
ومن هؤلاء :
يحيى بن سعيد القطان كما في "الضعفاء" للعقيلي (4/337) .
وأحمد بن حنبل :
سأل عبد الله بن أحمد بن حنبل أباه عنه كما في "العلل" (752) ، فقال :" وَسَأَلته عَن هِشَام بن حُجَيْر فَقَالَ : لَيْسَ هُوَ بِالْقَوِيّ . قلت : هُوَ ضَعِيف ؟ قَالَ : لَيْسَ هُوَ بِذَاكَ ". انتهى
وقال أحمد في "العلل" (824) :" ضَعِيف الحَدِيث ". انتهى
ويحيى بن معين في رواية :
في "العلل" لأحمد (4024) قال عبد الله :" سَأَلت يحيى عَن هِشَام بن حُجَيْر فضعفه جدا ". انتهى
وأبو حاتم :
قال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (9/54) :" سألت ابى عن هشام بن حجير فقال: مكى يكتب حديثه ". انتهى
القول الثاني : وهو قول بعض أهل العلم ، أنه ثقة .
ومن هؤلاء :
ابن سعد في "الطبقات" (5/484) ، والعجلي في "الثقات" (1729) ، وقال الساجي: "صدوق". كذا في "إكمال تهذيب الكمال" (12/138) .
القول الثالث :
وهو أنه حسن الحديث إلا أن يُخالف ، أو يتفرد عن شيخ بشيء دون أصحابه .
وهذا ما رجحه الذهبي ، فإنه ذكره في كتاب "من تُكلم فيه وهو موثق" (355) ، وقد قال في مقدمته لكتابه هذا : " فهذا فصل نافع في معرفة ثقات الرواة ، الذين تكم فيهم بعض الأئمة، بما لا يرد أخبارهم ، وفيهم بعض اللين ، وغيرهم أتقن منهم وأحفظ .
فهؤلاء : حديثهم ، إن لم يكن في أعلى مراتب الصحيح ؛ فلا ينزل عن رتبة الحسن .
اللهم إلا أن يكون للرجل منهم أحاديث تستنكر عليه ، وهي التي تُكلم فيه من أجلها ؛ فينبغي التوقف في هذه الأحاديث ". انتهى
وقال فيه الحافظ ابن حجر في ابن حجر (7288) :" صدوق له أوهام " . انتهى
والراجح هذا القول – والله أعلم - ، لما يلي :
أولا : أن البخاري ومسلم قد رويا له ، والبخاري روى له حديثا في " باب الاستثناء في الإيمان " رقم (6720) ، من طريق سُفْيَان بن عيينة ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حُجَيْرٍ، عَنْ طَاوُسٍ ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ ، قَالَ: " قَالَ سُلَيْمَانُ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً ، كُلٌّ تَلِدُ غُلاَمًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ - قَالَ سُفْيَانُ: يَعْنِي المَلَكَ - قُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَنَسِيَ ، فَطَافَ بِهِنَّ فَلَمْ تَأْتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ بِوَلَدٍ إِلَّا وَاحِدَةٌ بِشِقِّ غُلاَمٍ ".
ثم روى الحديث مرة أخرى برقم (5242) ، من طريق ابن طاووس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة به . أي متابعة لرواية هشام بن حجير .
ومسلم روى له في موضعين :
الأول : برقم (1246) ، من طريق سفيان بن عُيَيْنَةَ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حُجَيْرٍ ، عَنْ طَاوُسٍ ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : قَالَ لِي مُعَاوِيَةُ: " أَعَلِمْتَ أَنِّي قَصَّرْتُ مِنْ رَأْسِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْمَرْوَةِ بِمِشْقَصٍ؟ » فَقُلْتُ لَهُ: لَا أَعْلَمُ هَذَا إِلَّا حُجَّةً عَلَيْكَ ".
ثم روى نفس الحديث من طريق الحسن بن مسلم ، عن طاووس ، عن ابن عباس به . أي متابعة لرواية هشام بن حجير .
الثاني : برقم (1645) ، من طريق سفيان بن عيينة ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حُجَيْرٍ ، عَنْ طَاوُسٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ نَبِيُّ اللهِ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً .. ثم ساق الحديث .
ثم روى نفس الحديث من طريق ابن طاووس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة به . أي متابعة لرواية هشام بن حجير .
فتبين مما سبق أن الشيخين البخاري ومسلم قد رويا له ، لكن لم ينفرد بالرواية بل توبع .
ثانيا : أن ابن معين قال فيه مرة :" صالح ".
ذكر هذه الرواية ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (9/54) .
وهذا المصطلح يطلق غالبا ، ويراد به أنه : صدوق وفيه ضعف .
فقد أخرج الخطيب في "الكفاية" (ص22) ، عن أحمد بن سنان ، قال :" كان عبد الرحمن بن مهدى ، ربما جرى ذكر حديث الرجل فيه ضعف ، وهو رجل صدوق ، فيقول رجل صالح الحديث ". انتهى
ثالثا : أن سفيان بن عيينة قد روى عنه ، وسفيان بن عيينة ممن عرفوا بأنهم لا يروون عن أي أحد ؛ بل ينتقون مشايخهم .
فقد روى مسلم في "مقدمة صحيحه" (1/21) ، أن سفيان بن عيينة قال :" سَمِعْتُ جَابِرًا ، يُحَدِّثُ بِنَحْوٍ مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ ، مَا أَسْتَحِلُّ أَنْ أَذْكُرَ مِنْهَا شَيْئًا ، وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا ". انتهى
ونقل الذهبي في "تاريخ الإسلام" (4/1110) ، فقال :" قال ذؤيب السَّهْميّ: سَأَلت ابن عُيَيْنَة: أسمعتَ مِن صالح مولى التوأمة؟ قَالَ: نعم ، هكذا وهكذا. وأشار بيديه ؛ يعني كثرة ، وسمعتُ منه ولُعابه يسيل.
قَالَ أبو محمد بْن أَبِي حاتم: فلا نعلمه روى عَنْهُ شيئًا ، كَانَ منتقدًا للرُّواة ". انتهى
وهذا عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب ، قال فيه ابن عيينة ، كما في "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (1/40) : " كان ابْن عقيل فِي حفظه شيء ، فكرهت أن ألقاه ". انتهى . وينظر: "تهذيب الكمال" (16/81) .
هذا وقد صرح سفيان بن عيينة أنه لم يكن يأخذ عن هشام بن حجير إلا ما لم يكن عند غيره .
نقله عنه العقيلي في "الضعفاء" (6351) ، فقال :" قال سُفيان بن عُيَينَة : لَم نَكُن نَأخُذ عن هِشام بن حُجَير ، إلا ما لا نَجِدُه عِند غَيرِهِ ". انتهى
فدل ذلك على أن ابن عيينة كان يعلم أن حفظ هشام بن حجير ليس بالقوي ، ولذا كان يأخذ عنه ، ويحتاط في الرواية ، بحيث لا يأخذ منه إلا إذا احتاج أن يروي عنه .
ولذا كان حكم الحافظ الذهبي أنه حسن الحديث ، وحكم الحافظ ابن حجر أنه صدوق له أوهام ، هو الأقرب .
وهذا صنيع الشيخ الألباني رحمه الله .
فإنه ذكر في "صحيح أبي داود" (6/406) أثرا من طريق هشام بن حجير عن طاووس ، وحسنه.
قال الشيخ رحمه الله :" وروى هشام بن حُجَيْر عن طاوس قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قد كان لكم في الطلاق أناة؛ فاستعجلتم أناتكم، وقد أجزنا عليكم ما استعجلتم من ذلك.
أخرجه سعيد بن منصور في "سننه " (3/259) ، وإسناده إلى طاوس حسن ". انتهى
ومع ذلك ؛
فتبقى مسألة الحكم على هشام بن حجير مسألة اجتهادية ، وهي مما يسوغ فيها الخلاف .
فمن قبل حديثه ، وصححه ، فقوله وجيه ، وله فيه سلف .
فهذا الحافظ ابن حجر ذكر في "المطالب العالية" (323) حديثا من طريق هشام بن حجير عن طاووس ، ثم قال ابن حجر :" إسناده صحيح ". انتهى
ومن ضعفه ، وتوقف في قبول حديثه : فله في ذلك ؛ أي سلف ، ويكفي أن إمامه في ذلك : أحمد ، وابن معين ، ومن نحا نحوهما .
وقد سبق في أول الجواب :
أن هذه ليست من المسائل التي يتناولها العامة ، حتى نسأل : كيف يتناولها المسلم العادي .
ومتى طرقت سمعه ، أو احتاج إلى شيء منها : فيكفيه أن يسأل من يسأل من يثق به من أهل العلم . وقد برأت ذمته ، وحصل ما له ، أو عليه ، وزيادة .
وقد قال الله تعالى : فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ النحل/43
والله أعلم .
تعليق