الحمد لله.
أولا:
الكلالة وردت في آيتين من كتاب الله، أما الأولى فقوله تعالى: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ النساء/12 .
وهذه الآية جاءت لبيان ميراث الإخوة من الأم ، بإجماع العلماء .
قال الأمين الشنقيطي رحمه الله: "المراد في هذه الآية بالإخوة ، الذين يأخذ المنفرد منهم السدس، وعند التعدد يشتركون في الثلث ، ذكرهم وأنثاهم سواء: إخوة الأم؛ بدليل بيانه تعالى أن الإخوة من الأب ، أشقاء أو لأب ، يرث الواحد منهم كل المال، وعند اجتماعهم يرثون المال كله ، للذكر مثل حظ الأنثيين.
وقال في المنفرد منهم: (وهو يرثها إن لم يكن لها ولد)، وقال في جماعتهم: (وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين).
وقد أجمع العلماء على أن هؤلاء : الإخوة من الأب، كانوا أشقاء ، أو لأب.
كما أجمعوا أن قوله: (وإن كان رجل يورث كلالة) الآية، أنها في إخوة الأم، وقرأ سعد بن أبي وقاص: (وله أخ أو أخت من أم).
والتحقيق : أن المراد بالكلالة: عدم الأصول والفروع، كما قال الناظم:
ويسألونك عن الكلالة ... هي انقطاع النسل لا محالة
لا والد يبقى ولا مولود ... فانقطع الأبناء والجدود
وهذا قول أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وأكثر الصحابة وهو الحق إن شاء الله تعالى. واعلم أن الكلالة تطلق على القرابة من غير جهة الولد والوالد، وعلى الميت الذي لم يخلف والدا ولا ولدا، وعلى الوارث الذي ليس بوالد ولا ولد، وعلى المال الموروث عمن ليس بوالد ولا ولد ; إلا أنه استعمال غير شائع.
واختلف في اشتقاق الكلالة، واختار كثير من العلماء أن أصلها من تكلله إذا أحاط به، ومنه الإكليل لإحاطته بالرأس، والكُل لإحاطته بالعدد ; لأن الورثة فيها محيطة بالميت من جوانبه لا من أصله ولا فرعه.
وقال بعض العلماء: أصلها من الكلال بمعنى الإعياء; لأن الكلالة أضعف من قرابة الآباء والأبناء.
وقال بعض العلماء: أصلها من الكل ، بمعنى الظهر . وعليه: فهي ما تركه الميت وراء ظهره.
واختلف في إعراب قوله كلالة. فقال بعض العلماء: هي حال من نائب فاعل يورث على حذف مضاف، أي: يورث في حال كونه ذا كلالة ، أي قرابة غير الآباء والأبناء، واختاره الزجاج وهو الأظهر، وقيل: هي مفعول له، أي: يورث لأجل الكلالة أي القرابة، وقيل: هي خبر كان، ويورث صفة لرجل، أي: كان رجل موروث ذا كلالة ليس بوالد ولا ولد، وقيل غير ذلك، والله تعالى أعلم" انتهى من "أضواء البيان" (1/ 228).
وتبين من كلامه رحمه الله: معنى الكلالة، وأصل اشتقاق الكلمة، وإعرابها في الآية.
وأما الثانية فقوله تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ النساء/176 .
وهي في بيان ميراث الإخوة لغير أم، أي أشقاء أو لأب، فإذا مات الميت، وكان يورث كلالة، لا والد له ولا ولد، فإن كان له أخت شقيقة، أو لأب : أخذت النصف. وإن كان له أختان فأكثر: أخذتا الثلثين.
وإن كان له أخ شقيق أو لأب: أخذ الكل.
وإن كان له إخوة رجالا ونساء، اقتسموا المال للذكر مثل حظ الأنثيين.
قال ابن المنذر رحمه الله: " وأجمعوا أن مراد الله عز وجل في الآية التي في أول سورة النساء: الإخوة من الأم، وبالتي في آخرها: من الأب والأم.
وأجمعوا على أن الإخوة من الأم : لا يرثون مع ولد الصلب ، ذكرا كان أو أنثى.
وأجمعوا على أن الإخوة من الأم: لا يرثون مع الأب، ولا مع جدٍّ ، أبي أبٍ، وإن بعد .
فإذا لم يترك المتوفى أحدا ممن ذكرنا أنهم يحجبون الإخوة من الأم، فإن ترك أخا أو أختا لأم : فله أو لها السدس فريضة، فإن ترك أخا وأختا من أمه، فالثلث بينهما سواء، لا فضل للذكر منهما على الأنثى...
وأجمعوا على أن الإخوة والأخوات من الأب ، يقومون مقام الإخوة والأخوات من الأب والأم، وذكورا كذكورهم، وإناثًا كإناثهم، إذا لم يكن للميت إخوة، ولا أخوات لأب وأم" انتهى من "الإجماع" ص71 .
وقال الأمين الشنقيطي رحمه الله: " صرح في هذه الآية الكريمة بأن الأختين : يرثان الثلثين، والمراد بهما الأختان لغير أم، بأن تكونا شقيقتين أو لأب بإجماع العلماء" انتهى من "أضواء البيان"(1/ 324).
وقال ابن كثير رحمه الله: "وقد تقدم الكلام على الكلالة واشتقاقها، وأنها مأخوذة من الإكليل الذي يحيط بالرأس من جوانبه؛ ولهذا فسرها أكثر العلماء: بمن يموت وليس له ولد ولا والد، ومن الناس من يقول: الكلالة من لا ولد له، كما دلت عليه هذه الآية: إن امرؤ هلك [أي مات] ليس له ولد " انتهى من "تفسير ابن كثير" (2/ 482)
ثالثا:
قد علم من القرآن الكريم ولغة العرب : أن (الولد) يطلق على الذكر والأنثى، ولهذا فهم ابن عباس من قوله: (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ) : أنه لو كان للميت بنت، فلا شيء للأخت؛ لأنه شرط لإرثها عدم الولد، الذي يصدق على الذكر والأنثى.
وخالفه الجمهور في ذلك ، وقالوا : بل ترث تعصيبا ، وتأخذ الباقي بعد نصيب البنت ، وقد دلت السنة الصحيحة الصريحة على ذلك . كما رواه البخاري وغيره.
وهذا هو الدليل على عدم حجب البنت للإخوة الأشقاء، دون الإخوة من الأم .
قال البخاري في صحيحه : باب ميراث الأخوات مع البنات عصبة . ثم روى بإسناده عن الأسود قال : قضى فينا معاذ بن جبل علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم النصف للابنة والنصف للأخت .
قال ابن كثير رحمه الله: " وقد نقل ابن جرير وغيره عن ابن عباس وابن الزبير أنهما كانا يقولان في الميت ترك بنتا وأختا: إنه لا شيء للأخت ، لقوله: إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك قال: فإذا ترك بنتا فقد ترك ولدا، فلا شيء للأخت.
وخالفهما الجمهور، فقالوا في هذه المسألة: للبنت النصف بالفرض، وللأخت النصف الآخر بالتعصيب، بدليل غير هذه الآية .
وهذه الآية نصت أن يفرض لها في هذه الصورة .
وأما وراثتها بالتعصيب؛ فلما رواه البخاري من طريق سليمان، عن إبراهيم، عن الأسود، قال: قضى فينا معاذ بن جبل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: النصف للابنة، والنصف للأخت.
ثم قال سليمان: قضى فينا ولم يذكر: على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي صحيح البخاري أيضا عن هزيل بن شرحبيل قال: سئل أبو موسى الأشعري عن ابنة وابنة ابن وأخت، فقال: للابنة النصف، وللأخت النصف، وائت ابن مسعود ، فسيتابعني.
فسئل ابن مسعود -وأُخبر بقول أبي موسى- فقال: لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم ، للابنة النصف، ولابنة الابن السدس، تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت .
فأتينا أبا موسى ، فأخبرناه بقول ابن مسعود، فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم" انتهى من"تفسير ابن كثير" (2/ 484) .
وقال ابن بطال رحمه الله : " أجمعوا على أن الأخوات عصبة البنات ، فيرثن ما فضل عن البنات ، فمن لم يخلف إلا بنتا وأختا، فللبنت النصف ، وللأخت النصف الباقي، على ما في حديث معاذ .
وان خلف بنتين وأختا ، فلهما الثلثان ، وللأخت ما بقى .
وإن خلف بنتا وأختا وبنت ابن : فللبنت النصف ، ولبنت الابن تكملة الثلثين ، وللأخت ما بقى ، على ما في حديث بن مسعود ؛ لأن البنات لا يرثن أكثر من الثلثين .
ولم يخالف في شيء من ذلك إلا ابن عباس ، فإنه كان يقول للبنت النصف ، وما بقى للعصبة وليس للأخت شيء .." انتهى من "فتح الباري" (12/24).
وقال ابن قدامة في "المغني" (6/164) : " وهذا قول عامة أهل العلم ، يروى ذلك عن عمر ، وعلي ، وزيد ، وابن مسعود ، ومعاذ ، وعائشة رضي الله عنهم . وإليه ذهب عامة الفقهاء إلا ابن عباس ، ومن تابعه " انتهى .
رابعا:
قد تبين مما سبق أن الذي يورث كلالة : من لا والد له ولا ولد، وأن (الولد) يشمل الذكر والأنثى، سواء في الآية الأولى، أو في الثانية، فالبنت تحجب الإخوة لأم، كما في الآية الأولى، وكان مقتضى الآية الثانية أن تحجب الأخت الشقيقة أو لأب كذلك، لولا قضاء النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما الأم فلا تدخل في الكلالة، وقد ذكر الله ميراثها مع الإخوة وبين أنها تُحجب من الثلث إلى السدس لوجودهم، فقال: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ النساء/11 .
وهذا يشمل الإخوة لأم ، أو أشقاء ، أو لأب، وإذا كان الإخوة يحجبونها نقصانا، فكيف يتصور أنها تحجبهم حرمانا!
قال ابن كثير رحمه الله: " والحال الثالث من أحوال الأبوين: وهو اجتماعهما مع الإخوة، وسواء كانوا من الأبوين، أو من الأب، أو من الأم، فإنهم لا يرثون مع الأب شيئا، ولكنهم مع ذلك يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس، فيفرض لها مع وجودهم السدس، فإن لم يكن وارث سواها ، وسوى الأب : أخذ الأب الباقي" انتهى من "تفسير ابن كثير" (2/ 227).
وإذا لم يوجد أب، فإن الإخوة يرثون معها اتفاقا.
والله أعلم.
تعليق