الحمد لله.
الأصل هو منع تعدد الجمعة، إلا عند اتساع البلد وكثرة الناس، وقد نص الفقهاء على أنه إذا تعددت الجمعة بلا موجب، فالصحيحة هي الأولى أي التي تسبق غيرها بتكبيرة الإحرام.
قال في "كشاف القناع" (2/39) : " ( وتجوز إقامتها ) أي الجمعة ( في أكثر من موضع من البلد ، لحاجة إليه كضيق ) مسجد البلد عن أهله ( وخوف فتنة ) بأن يكون بين أهل البلد عداوة ، فيخشى إثارة الفتنة باجتماعهم في مسجد واحد ( وبُعد ) للجامع عن طائفة من البلد ، ( ونحوه ) ، كسعة البلد وتباعد أقطاره ، ( فتصح ) الجمعة ( السابقة واللاحقة ) لأنها تُفعل في الأمصار العظيمة ، في مواضع ، من غير نكير؛ فكان إجماعا ...
( ويحرم ) إقامة الجمعة والعيد بأكثر من موضع من البلد ( لغير حاجة ) ، قال في المبدع : لا نعلم فيه خلافا إلا عن عطاء " .
( و ) يحرم ( إذنُ إمامٍ فيها ) أي في إقامة ما زاد على واحدة ( إذنْ ) أي عند عدم الحاجة إليه وكذا الإذن فيما زاد على قدر الحاجة ( فإن فعلوا ) أي أقاموا الجمعة في موضعين فأكثر , مع عدم الحاجة ( فجمعة الإمام التي باشرها أو أذن فيها : هي الصحيحة ) لأن في تصحيح غيرها افتياتا عليه ، وتفويتا لجمعته ...( فإن استويا في الإذن وعدمه ) أي أو عدم إذن الإمام فيهما ( فالثانية باطلة ، ولو كانت ) المسبوقة ( في المسجد الأعظم " انتهى .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "مثال الحاجة: إذا ضاق المسجد عن أهله، ولم يمكن توسيعه؛ لأن الناس لا يمكن أن يصلوا في الصيف في الشمس، ولا في المطر في أيام الشتاء.
وكذا إذا تباعدت أقطار البلد، وصار الناس يشق عليهم الحضور، فهذا أيضاً حاجة.
لكن في عصرنا الآن ليس هناك حاجة من جهة البعد، بل هناك حاجة من جهة الضيق؛ لأن الذين يأتون بالسيارات من أماكن بعيدة يحتاجون إلى مواقف، وقد لا يجدون مواقف، لكن إذا كان هناك مواقف، أو كانت السيارات قليلة، فإنه يجب على الإنسان أن يحضر ولو بعيداً، ويقال للقريبين: لا تأتوا بالسيارات؛ لأجل أن يفسحوا المجال لمن كانوا بعيدين.
ومن الحاجة أيضاً: أن يكون بين أطراف البلد حزازات وعداوات، يخشى إذا اجتمعوا في مكان واحد أن تثور فتنة، فهنا لا بأس أن تعدد الجمعة، لكن هذا مشروط بما إذا تعذر الإصلاح، أما إذا أمكن الصلح، وجب الإصلاح، وتوحيدهم على إمام واحد.
وليس من الحاجة أن يكون الإمام مسبلاً أو فاسقاً؛ لأن الصحابة صلوا خلف الحجاج بن يوسف، وهو من أشد الناس ظلماً وعدواناً، يقتل العلماء والأبرياء، وكانوا يصلون خلفه.
بل الصحيح أنه يجوز أن يكون الإمام فاسقاً، ولو في غير الجمعة، ما لم يكن فسقه إخلالاً بشرط من شروط الصلاة، يعتقده هو شرطاً؛ فحينئذٍ لا نصلي خلفه".
ورجح رحمه الله: أن الصلاة الصحيحة هي صلاة الجمعة التي أنشئت أولا، قبل إحداث ما بعدها.
قال: "والمراد بالثانية: ما تأخرت عن الأخرى بتكبيرة الإحرام، وإن كانت الأخرى أسبق منها إنشاء، ولكن كيف نعلم ذلك؟
الجواب: أما في الزمن السابق فالعلم بتقدم إحداهما بالإحرام، قد يكون صعباً.
أما في الزمن الحاضر: فالعلم بتقدم إحداهما بالإحرام قد يكون سهلاً، بوسيلة مكبر الصوت، إذا سمعنا قول الإمام في الأولى: الله أكبر، ثم قال الإمام في الثانية بعده مباشرة: الله أكبر، قلنا للثاني: صلاتك باطلة، وللأول: صلاتك صحيحة؛ لأن الأول لما سبق بالإحرام تعلق بها الفرض؛ لأنها سبقت، وعلى المذهب تدرك الصلاة بتكبيرة الإحرام، فإذا سبقت بتكبيرة الإحرام تعلق الفرض بها، وصارت هي الصلاة المفروضة، والثانية باطلة.
وقال بعض العلماء: المعتبر السبق زمناً، فالتي قد أنشئت أولاً فالحكم لها؛ لأن الثانية هي التي حدثت على الأولى، فهي تشبه مسجد الضرار الذي بناه المنافقون عند مسجد قباء، وقال الله لنبيه: لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا [التوبة: 108].
وهذا القول هو الصحيح، أن المعتبر السابقة زمناً وإنشاء ولو تأخرت عملاً، فلو فرضنا أن الجديدة، التي أنشئت حديثاً، وبدون إذن الإمام : صلوا ركعة قبل أن تقام الثانية ، التي هي الأولى إنشاءً : فإن صلاتهم لا تصح جمعة؛ لأن الناس مجتمعون على الأولى، فجاء هؤلاء وأنشؤوا مسجداً جامعاً وفرقوا الناس" انتهى من "الشرح الممتع" (5/ 72، 76).
وعليه : فإذا تعددت الجُمع بلا موجب، فصل في المسجد الذي كانت الجمعة فيه أولا ، قبل كثرة المساجد، أو في المسجد الذي أقيمت فيه الجمعة لحاجة، كبعده عن المساجد، أو ضيق المساجد المجاورة له عن المصلين.
وما قيل في الصلاة يقال في الخطبة، فلا تخطب في المسجد الذي أقيمت فيه الجمعة بلا حاجة.
والله أعلم.
تعليق