الخميس 9 شوّال 1445 - 18 ابريل 2024
العربية

هل يشرع الدعاء بقولنا: إن تعذبنا فإنا عبادك، وإن تغفر لنا فإنك أنت العزيز الحكيم ؟

297709

تاريخ النشر : 26-04-2020

المشاهدات : 10219

السؤال

هل يجوز لنا أن ندعو لنفسنا بالآتي : إِن تُعَذِّبْنا فَإِنَّا عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَنا فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ؟

الجواب

الحمد لله.

أولًا:

تقدم الكلام على معنى هذا الدعاء، وهل دعا به عيسى عليه السلام في الدنيا أم إن ذلك يكون يوم القيامة. وينظر: جواب السؤال رقم : (287967) .

ثانيا:

لا يشرع للعبد أن يقول: إن تعذبني فإني عبدك وإن تغفر لي فإنك أنت العزيز الحكيم؛ لأمور:

1- أن العبد مأمور بأن يعزم المسألة، وأن يعظِم الرغبة، فلا يقول: اغفر لي إن شئت، وهذا الدعاء في معناه.

روى البخاري (6339)، ومسلم (2679) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:  إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلَا يَقُلْ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، وَلَكِنْ لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ وَلْيُعَظِّمِ الرَّغْبَةَ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاهُ  .

وفي رواية:  فإنه لا مستكره له .

قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (11/ 140): " والمراد: أن الذي يحتاج إلى التعليق بالمشيئة، ما إذا كان المطلوب منه يتأتى إكراهه على الشيء، فيخفَّفُ الأمرُ عليه، ويعلم بأنه لا يطلب منه ذلك الشيء إلا برضاه، وأما الله سبحانه فهو منزه عن ذلك؛ فليس للتعليق فائدة...

وقال ابن بطال: في الحديث أنه ينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء، ويكون على رجاء الإجابة ولا يقنط من الرحمة، فإنه يدعو كريما. وقد قال ابن عيينة: لا يمنعن أحدا الدعاء ما يعلم في نفسه، يعني من التقصير، فإن الله قد أجاب دعاء شر خلقه وهو إبليس، حين قال: رب أنظرني إلى يوم يبعثون.

وقال الداودي: معنى قوله: (ليعزم المسألة): أن يجتهد ويلح، ولا يقل: إن شئت، كالمستثني، ولكن دعاء البائس الفقير" انتهى. 

2-  أن من لم يُغفر له هلك وخسر، كما قال تعالى عن دعاء آدم عليه السلام:  قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ  الأعراف/23

وقال عن دعاء نوح عليه السلام:  قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ  هود/47

3- أن دعاء عيسى عليه السلام: المراد منه البراءة ممن عبده، والإشارة إلى استحقاقه للعذاب، فالمعنى كما قال ابن القيم: " فإذا عذبتهم - مع كونهم عبيدك - فلولا أنهم عبيد سوء من أنحس العبيد، وأعتاهم على سيدهم، وأعصاهم له - لم تعذبهم. لأن قربة العبودية تستدعي إحسان السيد إلى عبده ورحمته. فلماذا يعذب أرحم الراحمين، وأجود الأجودين، وأعظم المحسنين إحسانا عبيده؛ لولا فرط عتوهم، وإباؤهم عن طاعته، وكمال استحقاقهم للعذاب" انتهى من"مدارج السالكين"(2/ 358).

فليس للداعي أن يتبرأ من نفسه، وأن يجعلها مستحقة للعذاب، بل الشأن أن يستعطف الله ويسترحمه، كما في دعاء أنبيائه ورسله، -وتقدم دعاء آدم ونوح- وقال موسى عليه السلام:  رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ  القصص/16.

وقال محمد صلى الله عليه وسلم:  اللهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَنْتَ رَبِّي، وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا، إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ  رواه مسلم (771).

وروى مسلم (709) عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَحْبَبْنَا أَنْ نَكُونَ عَنْ يَمِينِهِ، يُقْبِلُ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، قَالَ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ:  رَبِّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ - أَوْ تَجْمَعُ – عِبَادَكَ .

وروى البخاري (834)، ومسلم (2705) عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي، قَالَ:  قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ .

4-أن من أراد بذلك الدعاء- وليس البراءة- كان مسيئا للأدب، مظهرا لعدم الحاجة إلى المغفرة.

قال القرافي رحمه الله: " (القسم السابع) من الدعاء المحرم الذي ليس بكفر: وهو الدعاء المعلق على مشيئة الله تعالى، فلا يجوز أن يقول: اللهم اغفر لي إن شئت، ولا اللهم اغفر لي إلا أن تشاء، ولا اللهم اغفر لي إلا أن يكون قد قدرت غير ذلك، وما أشبه هذه النظائر؛ لما ورد في الصحيح" لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت وليعزم المسألة .

وسره : أن هذا الدعاء عري عن إظهار الحاجة إلى الله تعالى، ويشعر بغنى العبد عن الرب" انتهى من "الفروق" (4/ 285).

5-أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قول عيسى عليه السلام، وعدل عنه إلى الدعاء لأمته، فقال: (اللهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي)؛ فدل على أن مقام الدعاء، غير مقام البراءة.

روى مسلم (202) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَلَا قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ:  رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي  إبراهيم/36 الْآيَةَ، وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ:  إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ  المائدة/118، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: اللهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي ، وَبَكَى، فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ:  يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟  فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللهُ:  يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ، وَلَا نَسُوءُكَ  ". 

والحاصل:

أنه في مقام الدعاء: يسأل الله المغفرة، ووقاية العذاب، جزما دون تخيير.

وفي مقام البراءة يشرع الدعاء بما قاله عيسى عليه السلام، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك في حق المرتدين على أعقابهم الذين يمنعون من حوضه.

روى البخاري (3447)، ومسلم (2860) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:   تُحْشَرُونَ حُفَاةً، عُرَاةً، غُرْلًا، ثُمَّ قَرَأَ: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ)الأنبياء/104، فَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ يُؤْخَذُ بِرِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِي ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ: أَصْحَابِي، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ العَبْدُ الصَّالِحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ: (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ)

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب