الأحد 21 جمادى الآخرة 1446 - 22 ديسمبر 2024
العربية

هل العقل في القلب أم الدماغ؟

302302

تاريخ النشر : 28-01-2024

المشاهدات : 13878

السؤال

قد وقعت في قلبي شبهة في قول الله تعالى:(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا )، أليس العضو أو المضغة التي تنتج التفكير والتي هي محل العقل أو الجنون الدماغ؟ وإن كان الله تعالى لا يشير إلى القلب الحسي الذي ينظم الدورة الدموية، بل إلى قلب معنوي من علم الغيب كالروح أو النفس، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)؛والمضغة شيء حسي، أرجو منكم تفصيل هذه المسألة بإذن الله تعالى.

ملخص الجواب

التعقل ركنان: الأول: هو الإدراك للمحسوسات، فبهذا الاعتبار: فموضع التعقل في الدماغ، كما أن موضع السمع في الأذن. والثاني: من ناحية تحليل هذه الإدراكات، التي استقبلتها الأعضاء المحسوسة، وتم إدراك هذا الاستقبال بالدماغ: فالتعقل، الذي هو تحليل الإدراكات: يساهم فيه الدماغ عبر مراكز المخ المختلفة، ويكون أيضًا بغريزة أودعها الله وجدان الإنسان، عبر عنها القرآن بلفظ القلب. وقد يكون للقلب، الذي هو العضو المعروف: صلة بهذا لم يدركها العلم. وقد يكون المراد: وجدان الإنسان الباطني عموما. ولا يوجد نص قطعي يفصل الراجح هاهنا. ولعل أقرب الألفاظ المعبرة عن التعقل، الذي يكون بالغريزة الباطنية، والمشار إليه في الوحي، هو لفظ: الوعي، والوعي من الموضوعات العلمية والفلسفية الكبيرة جدًا، وهو بلا شك: أمر زائد على مجرد إدراك المحسوسات وتحليلها، الذي يكون عبر مراكز المخ. والوعي، وفقًا لقاموس أكسفورد هو: "حقيقة دراية العقل بنفسه، وبالعالم". فكما يظهر هنا: الوعى مستوى يفوق العقل الذي هو الإدراك والتحليل المخي. والحديث المذكور في السؤال: قد يُحتج به على أن وظيفة التعقل لها اتصال بالقلب، وقد يقال إن النبي عليه الصلاة والسلام كنى عن الباطن بالقلب، والكناية: أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني، فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة، ولكن يجيء إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود، فيومئ به إليه، ويجعله دليلا عليه، فجُعل القلب الحسي هنا، دليلًا على الباطن الوجداني المعنوي، فيظل الأمر في دائرة الأدلة الظنية غير القطعية.

الجواب

الحمد لله.

أولا: ماهية العقل

1-العقل لغة:

-العقل في اللغة مصدر عقل، ويُقصد به معانٍ عدة، تدور حول: النهي، والمنع، والحبس، والربط.

قال ابن منظور في "لسان العرب" (11/485):

" العَقْلُ: ‌الحِجْر ‌والنُّهى ‌ضِدُّ ‌الحُمْق، وَالْجَمْعُ عُقولٌ.

وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: ( تِلْك عُقولٌ كادَها بارِئُها ) ؛ أَي أَرادها بسُوءٍ.

عَقَلَ يَعْقِلُ عَقْلًا ومَعْقُولًا، وَهُوَ مَصْدَرٌ؛ قَالَ سِيبَوَيْهِ: هُوَ صِفَةٌ ...

وعَقَل، فَهُوَ عاقِلٌ وعَقُولٌ مِنْ قَوْمٍ عُقَلاء. 

ابْنُ الأَنباري: رَجُل عاقِلٌ: وَهُوَ الْجَامِعُ لأَمره ورَأْيه، مأْخوذ مِنْ عَقَلْتُ البَعيرَ إِذا جَمَعْتَ قَوَائِمَهُ. وَقِيلَ: العاقِلُ الَّذِي يَحْبِس نَفْسَهُ ويَرُدُّها عَنْ هَواها، أُخِذَ مِنْ قَوْلِهِمْ: قَدِ اعْتُقِل لِسانُه، إِذا حُبِسَ ومُنِع الكلامَ.

والمَعْقُول: مَا تَعْقِله بِقَلْبِكَ. والمَعْقُول: العَقْلُ، يُقَالُ: مَا لَهُ مَعْقُولٌ أَي عَقْلٌ، وَهُوَ أَحد الْمَصَادِرِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى مَفْعُولٍ كالمَيْسور والمَعْسُور. وعاقَلَهُ فعَقَلَه يَعْقُلُه، بِالضَّمِّ: كَانَ أَعْقَلَ مِنْهُ. والعَقْلُ: التَّثَبُّت فِي الأُمور". انتهى. وينظر أيضا للفائدة: "تاج العروس" (30/18).

2-العقل في الاصطلاح:

اختلف مفهوم العقل في الاصطلاح، باختلاف الفرق والمذاهب التي تناولته بالبحث.

فمفهومه الاصطلاحي عند الفلاسفة، يختلف عن مفهومه عند المتكلمين، وكلاهما يختلف عن مفهومه عند الأصوليين والفقهاء، وهكذا.

لكن هناك قدر عام مشترك اتفق عليه الناس كلهم، وإن زاده بعضهم تخصيصا بأوصاف ومدلولات ترتبط بشكل أو بآخر بهذا الأساس المشترك، فبعضها يكون من المجاز، وبعضها من الألفاظ الاصطلاحية المقيدة، وبعضها من عمل هذا العقل ووظيفته..
والحاصل: أن المجمع عليه في تعريف العقل على وجه الحقيقة، هو - بتعبير ابن تيمية في "بغية المرتاد" (ص260) - : "الغريزة التي بها يعقل الإنسان.

ويُنقل عن الإمام أحمد تعريفه بأنه: "هو غريزة في النفس، وقوة فيها؛ بمنزلة قوة البصر التي في العين"

 وقال أبو المعالي الجويني في "البرهان" (1/19): "فإن قيل: فما العقل عندكم؟

قلنا: ليس الكلام فيه بالهيِّن، وما حوَّم عليه أحد من علمائنا غيرُ الحارث بن أسد المحاسبي رحمه الله، فإنه قال: العقل غريزة يتأتَّى بها درك العلوم، وليست منها.

ثم قال: " فالقدر الذي يحتمل هذا المجموع ذكره: أنه صفة؛ إذا ثبتتْ، تأتَّى بها التوصلُ إلى العلوم النظرية، ومقدماتها من الضروريات التي هي مستند النظريات..."

وقال الزبيدي في "تاج العروس" (30/19): "هو صفة راسخة، توجب لمن قامت به إدراك المدركات على ما هي عليه، ما لم تتصف بضدها".

وقال الراغب الأصفهاني في "المفردات" (ص577): "العقل: يقال للقوة المتهيئة لقبول العلم، ويقال للذي يستنبطه الإنسان بتلك القوة: عقل"

وقال الغزالي في "المستصفى" (ص20): "اسم العقل مشترك، يطلق على عدة معان، إذ يطلق على بعض العلوم الضرورية، ويطلق على الغريزة التي يتهيأ بها الإنسان لدرك العلوم النظرية، ويطلق على العلوم المستفادة من التجربة...

فإذا اختلفت الاصطلاحات؛ فيجب بالضرورة أن تختلف الحدود.

فيقال في حد العقل، باعتبار أحد مسمياته: إنه بعض العلوم الضرورية، كجواز الجائزات، واستحالة المستحيلات، كما قاله القاضي أبو بكر الباقلاني -رحمه الله-.

وبالاعتبار الثاني: إنه غريزة يتهيَّأ بها النظر في المعقولات.

وهكذا بقية الاعتبارات". انتهى.

وقال النسفي في "العقائد النسفية": "أما العقل، وهو قوة للنفس، بها تستعد للعلوم والإدراكات، وهو المعني بقولهم: غريزة يتبعها العلم بالضروريات عند سلامة الآلات: [فهو سبب للعلم أيضا]" انظر: "تاج العروس" (30/19)، الحواشي البهية على العقائد النسفية (1/60-61).

وقال أرسطو في البرهان: "العقل: هو القوة التي تحصل للإنسان بالفطرة والطبع".

وقال الكندي في رسائله الفلسفية "رسالة في حدود الأشياء ورسومها" (ص33): "العقل جوهر بسيط مدرك للأشياء بحقائقها"

ويقول د. جميل صليبا في "المعجم الفلسفي" (2/86): "قيل: إن العقل هو  قوة النفس التي بها يحصل تصور المعاني، وتأليف القضايا والأقيسة ... وقيل هو: قوة طبيعية للنفس متهيئة لتحصيل المعرفة العلمية"

وهكذا نجد قدرًا مشتركا اتفق عليه الناس من كل المذاهب في تحديد العقل، وهو الملكة والغريزة، والقدرة على الفهم والوعي والعلم.

ثم اختلفوا بعد ذلك هل هو جوهر أم عرض؟ وهل هو متصل بالبدن أم أنه منفصل عنه؟ إلى غير ذلك من المسائل والتفصيلات التي لا تعنينا كثيرا في هذا البحث ..

والعقل بهذا الاعتبار ليس شيئا ماديا، كما هو واضح، بل هو شيء ميتافيزيقي متجاوز للوجود المادي البسيط.

ولكن لا تنتفي مع ذلك صلته بالجسد، بل ثم علاقة بين العقل والجسد، لكن يتضح لنا من طبيعة العقل غير المادية: أن النقاش المتعلق به هو نقاش فلسفي، وليس نقاشًا علميًّا تطبيقيًّا؛ فالعلم ليس له القدرة على البتِّ في مسائلَ لا تخضع للبحث التجريبي، والفحص المختبري أو الرياضي. وجل ما في الأمر أن العلم محدود بالحدود الفسيولوجية التي يستطيع رصدها وتتبعها، وهي التي تربط الوعي والإدراك بالعمليات الدماغية في المخ والجهاز العصبي.

وهذا لا يستلزم أن العقل محله المخ -كما سترى قريبا- لأن الإدراك الحسي والعصبي: وسيلة للتعقل، وليس مرادفا له؛ فالمخ، وكذا الحواس بالتبع: تعمل على إمداد العقل بالمدركات والمعلومات التي يستخدمها العقل لتكوين المعرفة؛ لذلك نجد أن حصول صدمة للمخ قد ينتج عنه غياب للإدراك، ما يستتبع توقف العقل، كما أن فقد حاسة من الحواس يستتبع عجز العقل عن تكوين معرفة من خلالها؛ فدور المخ والحواس في الإنسان، كدورها في الحيوانات، وكما أن عطب الحواس يؤدي لعطب العقل من جهتها، فإن عطب المخ وإصابته، يؤدي لعطب العقل تماما، لأن المخ هو مركز الجهاز العصبي، ومحل الإدراك الفسيولوجي الذي يتوقف وجود العقل عليه، وهذا ما يفسر إصابة إنسان بالجنون نتيجة تعرضه لصدمة دماغية؛ فهذا قد أدى العطب في دماغه، إلى عطب في عقله؛ ومع ذلك فهو لا يستلزم – بالضرورة - أن يكون محل العقل هو الدماغ؛ بل ما يستلزمه: هو أن بينهما ارتباطا وتكاملا، وتأثرا وتأثيرا مشتركا؛ بغض النظر عن محل العقل بعد ذلك.

يقول "روبرت م. أغروس" و "جورج ن. ستانسيو" في كتابهما – المهم - "العلم في منظوره الجديد" (ص26-43)، ما ملخصه:

لقد جاء القرن العشرون بكشوف رائعة عن الفسيولوجيا ... قدمت نظرة جديدة بدأت بالسير تشارلز شرنغتون الذي يعتبر مؤسس فسيولوجيا الأعصاب الحديثة. ونتيجة بحوثه الرائدة في الجهاز العصبي والدماغ خلص شرنغتون إلى ما يلي:

هكذا ظهر فرق جذري بين الحياة والعقل. فالحياة هي مسألة كيمياء، وفيزياء، أما العقل فهو يستعصي على الكيمياء والفيزياء.

ويقصد شرنغتون بالحياة: الإشارة إلى التغذية الذاتية، واستقلاب الخلايا (الأيض) (Cell metabolism)، والنمو. فهو يقول: إن هذه الظواهر تتم بواسطة قوانين الفيزياء والكيمياء، ويمكن تفسيرها بلغة هذين العلمين. أما أنشطة العقل فهي تتجاوز آليات الفيزياء والكيمياء.

ويوافق على ذلك السير جون اكلس، المتخصص في مبحث الأعصاب، فيقول: «التجارب التي تنم عن الوعي، تختلف في نوعها كل الاختلاف عما يحدث في آلية الأعصاب. ومع ذلك فإن ما يحدث في آلية الأعصاب شرط ضروري للتجربة، وإن كان هذا شرطا غير كاف ....

ثم ذكرا عدة أمثلة وإيضاحات حول ذلك، حتى قالا:  "إذًا؛ فالنشاط الفسيولوجي والكيميائي للدماغ، وفقا للنظرة العلمية الجديدة، أمر ضروري للإحساس، متزامن معه، ولكنه ليس الإحساسَ بعينه، والمادة وحدها لا تستطيع أن تفسر الإدراك الحسي. فالنظرة القديمة تستطيع أن تتحدث عن الموجات الضوئية، والتغيرات الكيميائية، والنبضات الكهربائية في الأعصاب، ونشاط خلايا المخ.

أما عن عمليات الإبصار والشم والذوق والسمع واللمس ذاتها: فليس عند المادية ما تقوله.

إن الإدراك الحسي حقيقة؛ ولكنه ليس المادة، ولا هو من خواص المادة".

ثم أردفا ذلك بشرح للعقل والإرادة البشرية، قبل أن يذكرا بعض اكتشافات القرن الماضي في هذا الملف، من خلال تجارب أجراها جراح الأعصاب الأمريكي اللامع ويلدر غريفز بينفيلد، في عمليات جراحية على أدمغة ما يربو على ألف شخص، حيث ذكرا هذه التجارب ثم قالا: "ونتيجة مراقبة مئات المرضى بهذه الطريقة، ينتهي بنفيلد إلى أن عقل المريض، الذي يراقب الموقف بمثل هذه العزلة، والطريقة النقدية؛ لابد من أن يكون شيئا آخر يختلف كليا عن فعل الأعصاب اللاإرادي. ومع أن مضمون الوعي يتوقف إلى حد كبير على النشاط العصبي؛ فالإدراك نفسه لا يتوقف على ذلك.
وباستخدام أساليب المراقبة هذه استطاع بنفيلد أن يرسم خريطة كاملة تبين مناطق الدماغ المسؤولة عن النطق والحركة، وجميع الحواس الداخلية والخارجية. غير أنه لم يكن في المستطاع تحديد موقع العقل أو الإرادة في أي جزء من الدماغ!!

فالدماغ هو مقر الإحساس والذاكرة والعواطف والقدرة على الحركة، ولكنه فيما يبدو ليس مقر العقل أو الإرادة، ويعلن بنفيلد أنه ما من عمل من الأعمال التي نعزوها إلى العقل، قد أتبعه التنبيه بالإلكترود (القطب الكهربائي) أو الإفراز الصرعي. ويضيف قائلا: «ليس في قشرة الدماغ أي مكان يستطيع التنبيه الكهربائي فيه: أن يجعل المريض يعتقد، أو يقرر شيئا ... والإلكترود يستطيع أن يثير الأحاسيس والذكريات؛ غير أنه لا يقدر أن يجعل المريض يصطنع القياس المنطقي، أو يحل مسائل في الجبر. بل إنه لا يستطيع أن يحدث في الذهن أبسط عناصر الفكر المنطقي. والإلكترود يستطيع أن يجعل جسم المريض يتحرك، ولكنه لا يستطيع أن يجعله يريد تحريكه. إنه لا يستطيع أن يكره الإرادة.

فواضح إذًا: أن العقل البشري، والإرادة البشرية: ليس لهما أعضاء جسدية"!!

ثانيا:

نصوص الوحي فيما يتعلق بمكان العقل من الجسد:

لعل الجزم بما جاء به الوحي في هذه المسألة، مما يجدر تأخيره للقسم الأخير من البحث؛ لكن بما أنّنا سنعرض نصوص الوحي في المسألة، فلا مناص من الإشارة لذلك هاهنا، وبيان أن الوحي لم يقطع في مسألة موضع العقل من الجسد أصلا، وهذا لأن العقل ليس له وجود مادي، حتى يتم تعيين موضعه، كما أنه من قبيل الأعراض والصفات غير المادية، كما أوضحنا، وليس من قبيل الجواهر.

وكل ما جاء في الوحي، بهذا الشأن: من باب المجاز، المحاط بقرائن تؤكد عدم إرادة الحقيقة به. وسنتناول بيان ذلك بعد إيراد النصوص إن شاء الله.
نصوص الوحي جاءت كثيرة ومتواترة، على ربط التعقل بالقلب ربطا واضحا.

ومن ذلك قوله تعالى: 

- أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا  فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ الحج/46.

- لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا... الأعراف/179.

- وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ... التوبة/45.

- ...وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ... التوبة/93.

- إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ق/37.

- فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ... المنافقون/3.

- يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ الفتح/11.

- إن يعلم الله في قلوبكم خيرًا يؤتكم خيرًا.. الأنفال/70.

- وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به، ولكن ما تعمّدت قلوبكم... الأحزاب/5.

- ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم... البقرة/225.

إلى غير ذلك من الآيات الكريمة الكثيرة جدا، والأحاديث التي تحمل هذا المعنى، وهو عزو التعقل للقلب.

ولكن بالنظر في هذه النصوص وغيرها، نجد أنها كلها جاءت، وأريد منها معنىً معينٌ؛ ليس بالضرورة أن يقصد به القلب، الذي هو العضو المعروف، وهذا جلي وواضح في تفاسير العلماء، وفهمهم لهذه النصوص.

فمثلا في آية سورة الحج، وقوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا  فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ: وهي أوضح ما جاء في هذه المسألة، نجد أن السمع المراد، وكذلك البصر المراد، والتعقل المراد كذلك: هو إدراك الحق واتباعه، وعدم الإعراض عنه، وليس المقصود بنفي السمع أو البصر أو العقل: هنا نفي ذلك على الحقيقة. والطابع البلاغي، والمعنى المتبادر من الآية: واضح، وبعيد كل البعد عن تعيين موضع مادي للعقل؛ بل إن ذكر القلب هنا كآلة للتعقل، هو من باب ذكر القلب كآلة للشعور والإحساس، وهو ما يستعمله البشر قاطبة، بكل اللغات والثقافات والأديان؛ مع أنه من المفترض أن الشعور والإحساس أيضا هو نوع من التعقل؛ لكن درج الناس على تخصيص ذلك بالقلب، فنسبوا إليه الحب والكره والقسوة واللين والغضب والرضا، وغيرها من المشاعر؛ فكل ذلك لا علاقة مباشرة للقلب – كجارحة – به؛ من حيث الإدراك، أو التعقل.
والتعبير القرآني في ذلك: هو إعجاز في البلاغة والبيان؛ إذ إن إعراض الكافر عن الوحي الإلهي، لا يكون إلا مع نوازع وأهواء وبواطن نفسية، لا يعبَر عنها في أي لغة من اللغات إلا بأنها كسب للقلب؛ كالحقد والكبر والخوف والقسوة، فجاء تعبير الوحي، الذي قصد توبيخ من تسلطت عليه هذه النوازع، وصدته عن الحق؛ مشيرا لموضعها الذي عرفه الناس دائما، وهو القلب، فهو أولى أن يُتجوَّز به من المخ ههنا، كما ترى.

وأنت ترى، في لغة العرب يقال: خفيف الدماغ، لمن أمسك جمرة مشتعلة بيده فأحرقته. لكن من أعرض عن الإيمان بما قُدم له من أدلة وبراهين على صدق الوحي، يقال له: قاسي القلب، أو متبع لهوى قلبه، أو فيه كبر عن قبول الحق، وهكذا. فالعقل المجرد هنا مغلوب بأهواء القلب التي استحوذت عليه.
يقول الطاهر بن عاشور في "التحرير والتنوير" (17/288): "وأُطلقت القلوب على تقاسيم العقل، على وجه المجاز المرسل؛ لأن القلب هو مُفيض الدم، وهو مادة الحياة على الأعضاء الرئيسية، وأهمها الدماغ الذي هو عضو العقل؛ ولذلك قال: يعقلون بها؛ وإنما آلة العقل هي الدماغ، ولكن الكلام جرَى أوله على متعارف أهل اللغة، ثم أجري عقب ذلك على الحقيقة العلمية فقال: يعقلون بها؛ فأشار إلى أن القلوب هي العقل، ونزّلت عقولهم منزلة المعدوم، كما نزّل سَيْرهم في الأرض منزلة المعدوم".
والمشكلة دائما: أن الكثيرين يقرأون القرآن غافلين عن المقصد والغاية من خطابه، خصوصا فيما يتعلق بالنصوص التي لها تعلق بمسائل علمية ومادية؛ فالقرآن لم يقصد من قريب أو بعيد لتعيين موضع العقل من الجسد، بهذه الآية أو غيرها، وإنما قصد توضيح غفلة الكفار وإعراضهم عن الحق، مستعملا في ذلك ما يستعمله الناس والعرب بالخصوص في لغتهم من الألفاظ والتعابير ليوصل المعنى، بأرفع الأساليب وأعظم طرق البيان.

وهذا ما فهمه المفسرون؛ فمثلا نجد ابن جرير الطبري يقول في "تفسيره" (168/595):

"يقول تعالى ذكره: أفلم يسيروا هؤلاء المكذّبون بآيات الله والجاحدون قدرته في البلاد، فينظروا إلى مصارع ضُرَبائهم من مكذّبي رسل الله، الذين خلوْا من قبلهم، كعاد وثمود وقوم لوط وشعيب، وأوطانهم ومساكنهم، فيتفكَّروا فيها، ويعتبروا بها ويعلموا بتدبرهم أمرها وأمر أهلها، سنة الله فيمن كفر وعبد غيره وكذّب رسله، فينيبوا من عتوّهم وكفرهم، ويكون لهم إذا تدبروا ذلك واعتبروا به وأنابوا إلى الحقّ: قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا حجج الله على خلقه، وقدرته على ما بيَّنا.

أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا يقول: أو آذان تصغي لسماع الحقّ، فتعي ذلك وتميز بينه وبين الباطل. وقوله: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَار؛ يقول: فإنها لا تعمى أبصارهم أن يبصروا بها الأشخاص ويروها، بل يبصرون ذلك بأبصارهم؛ ولكن تعمى قلوبهم التي في صدورهم عن إبصار الحق ومعرفته ...

وقيل: وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ، والقلوب لا تكون إلا في الصدور؛ توكيدا للكلام، كما قيل: ( يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ )." انتهى.

فما فهمه الطبري رحمه الله من قوله تعالى: وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ هو أن ذلك توكيد للكلام؛ أي أن العَماية بحق: هي عماية القلب، وأن ذكر محل القلب هنا: زيادة في التوكيد، وإثبات لعمى لتلك القلوب.

وقال الطاهر بن عاشور في "التحرير والتنوير" (17/290): "التي في الصدور صفة لـ القلوب، تفيد توكيداً للفظ القلوب؛ فوزانه وزان الوصف في قوله تعالى: ولا طائر يطير بجناحيه الأنعام/38، ووزان القيد في قوله: يقولون بأفواههم آل عمران/167، فهو لزيادة التقرير، والتشخيص.

ويفيد هذا الوصف، وراء التوكيد: تعريضاً بالقوم المتحدَّث عنهم؛ بأنهم لم ينتفعوا بأفئدتهم، مع شدّة اتصالها بهم؛ إذ هي قارة في صدورهم، على نحو قول عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فالآن أنت أحبّ إليّ من نفسي التي بين جنبيَّ )؛ فإن كونها بين جنبيه، يقتضي أن تكون أحبّ الأشياء إليه". انتهى.

وفي تفسير هذه الآية أيضا يقول بن كثير في" تفسيره" (5/385): "فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ أي: ليس العمى عمى البصر، وإنما العمى عمى البصيرة، وإن كانت القوة الباصرة سليمة، فإنها لا تنفذ إلى العبر، ولا تدري ما الخبر".

ويقول البغوي في "تفسيره" (3/345) "لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ذكر التي في الصدور تأكيدا، كقوله: يطير بجناحيه الأنعام/38، معناه أن العمى الضار هو عمى القلب، فأما عمى البصر، فليس بضار في أمر الدين، قال قتادة: البصر الظاهر: بُلْغَةٌ ومتعة، وبصر القلب: هو البصر النافع".

وقال الطنطاوي في "تفسيره" (9/323): "ذكر -سبحانه- أن مواضع القلوب في الصدور، لزيادة التأكيد، ولزيادة إثبات العمى لتلك القلوب التى حدد -سبحانه- موضعها تحديدا دقيقا.

قال الآلوسى: فالكلام تذييل لتهويل ما نزل بهم من عدم فقه القلب، وأنه العمى الذى لا عمى بعده، بل لا عمى إلا هو، أو المعنى: إن أبصارهم صحيحة سالمة لا عمى بها، وأن العمى بقلوبهم، فكأنه قيل: أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب ذات بصائر، فإن الآفة ببصائر قلوبهم لا بأبصار عيونهم، وهى الآفة التي كل آفة دونها. كأنه يحثهم على إزالة المرض وينعى عليهم تقاعدهم عنها".

وهو الحال إذا ما نظرنا كلامهم في تأويل الآية 179 من الأعراف لهم قلوبٌ لا يفقهون بها،

يقول الطبري في "تفسيره" (10/593): "أما قوله: لهم قلوبٌ لا يفقهون بها، فإن معناه: لهؤلاء الذين ذرأهم الله لجهنم من خلقه قلوب لا يتفكرون بها في آيات الله، ولا يتدبرون بها أدلته على وحدانيته، ولا يعتبرون بها حُجَجه لرسله، فيعلموا توحيد ربِّهم، ويعرفوا حقيقة نبوّة أنبيائهم. فوصفهم ربُّنا جل ثناؤه بأنهم: لا يفقهون بها، لإعراضهم عن الحق وتركهم تدبُّر صحة نبوّة الرسل، وبُطُول الكفر.

وكذلك قوله: ولهم أعين لا يبصرون بها، معناه: ولهم أعين لا ينظرون بها إلى آيات الله وأدلته، فيتأملوها ويتفكروا فيها، فيعلموا بها صحة ما تدعوهم إليه رسلهم، وفسادَ ما هم عليه مقيمون، من الشرك بالله، وتكذيب رسله; فوصفهم الله بتركهم إعمالها في الحقّ، بأنهم لا يبصرون بها.

وكذلك قوله: ولهم آذان لا يسمعون بها، آيات كتاب الله، فيعتبروها ويتفكروا فيها، ولكنهم يعرضون عنها، ويقولون: لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ فصلت/26، وذلك نظير وصف الله إياهم في موضع آخر بقوله: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ البقرة/71.

والعرب تقول ذلك للتارك استعمالَ بعض جوارحه فيما يصلح له، ومنه قول مسكين الدارمي:

أَعْمَــى إِذَا مَــا جَـارَتِي خَرَجَـتْ *** حَــتَّى يُــوَارِيَ جَــارَتِي السِّـتْرُ

 وَأَصَــمُّ عَمَّـا كَـــانَ بَيْنَهُمَــا سَــمْعِي *** وَمَـا بِالسَّـمْعِ مِـنْ وَقْــرِ

فوصف نفسه، لتركه النظر والاستماع، بالعمى والصمم.

ومنه قول الآخر:

وَعَــوْرَاءِ اللِّئَــامِ صَمَمْـتُ عَنْهَـا *** وَإِنِّــي لَــوْ أَشَــاءُ بِهَـا سَـمِيعُ

وَبَـادِرَةٍ وَزَعْـــتُ النَّفْـسَ عَنْهَـا *** وَقَـدْ تَثِقَـتْ مِـنَ الْغَضَـبِ الضُّلُـوعُ

وذلك كثير في كلام العرب وأشعارها.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك: حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا أبو سعد قال: سمعت مجاهدًا يقول في قوله: لهم قلوب لا يفقهون بها قال: لا يفقهون بها شيئًا من أمر الآخرة.

ولهم أعين لا يبصرون بها: الهدى.

ولهم آذان لا يسمعون بها: الحقَّ.

ثم جعلهم كالأنعام سواءً، ثم جعلهم شرًّا من الأنعام، فقال: بَلْ هُمْ أَضَلُّ، ثم أخبر أنهم هم الغافلون". انتهى.

فنفي الفقه عن قلوبهم، هو من جنس نفي السمع عن آذنهم، ونفي البصر عن أعينهم؛ وكله يراد به إعراضهم عن الحق، وعدم الإذعان له؛ وليس الكلام على حقيقته. وهذا نحو قوله تعالى: صم بكم عمي فهم لا يعقلون.

فإذا قيل: توجد مناسبة بين البصر والعين، وبين الأذن والسمع؛ لأنها آلات ذلك؛ فما وجه المناسبة بين التعقل والقلب، إن لم يكن آلته؟

فالجواب عن ذلك: هو نفس ما سبق ذكره من أن ذلك مثل عزو المشاعر والأحاسيس والنوازع للقلب، في سائر الألسنة والثقافات، مع كون ذلك نوعا من التعقل؛ فهو ما درج عليه الناس واستعملوه، وهو مجاز له مناسبته بلا شك.
 وما يتعلق بالتعقل المجرد، الذي يعزوه الناس للدماغ في أحيان: كثيرة لم يرد أصلا في خطاب الوحي، فكل العقل والفقه والتفكر في خطاب الوحي له اقتران وثيق بأحوال وتعلقات قلبية وإيمانية؛ فلا محل لذكر شيء سوى القلب ههنا.

وخلاصة الأمر:

أن كل ما ورد في الوحي من نصوص تشير إلى القلب باعتباره آلة التعقل؛ فذلك من باب المجاز، لا الحقيقة.

والصواب: أن الوحي لم يُعين للعقل موضعًا ماديًا في جسم الإنسان؛ لأن العقل ليس له وجود مادي أصلا، لكن له ارتباط وتأثر وتأثير بالبدن بلا شك، كالعدالة مثلا فهي عرض وصفة غير مادية تلحق بالإنسان، وتوصف بأنها ملكة تحمل الإنسان على ملازمة التقوى والمروءة، وهكذا فهذا النوع من الأعراض لا يوصف بالمكانية.

ثالثا: آراء العلماء في هذه المسألة

اختلف العلماء المسلمون في هذه المسألة على قولين مشهورين، وهناك قول لابن تيمية فيه تفصيل أكثر، وإن كان قد مال في الجملة للمذهب الأول من حيثية معينة، ثم حاول الجمع بينهما ..

القول الأول: العقل مكانه في القلب.

وهذا مذهب بعض العلماء.
 جاء في "مسودة آل تيمية" (ص559): "قاله أبو الحسن التميمي، والقاضي [=أبو يعلى]. قال أبو الحسن: الذي نقول به: أن العقل في القلب، يعلو نورُه إلى الدماغ؛ فيفيض منه إلى الحواس ما جرى في العقل.

ومن الناس من قال: هو في الدماغ .. وهو قول قوم من أصحاب أبى حنيفة، وقد نص عليه أحمد فيما ذكره".

وقال النووي في "شرحه على صحيح مسلم" (11/29) في شرحه لحديث (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب) =: "واحتُج بهذا الحديث على أن العقل في القلب، لا في الرأس. وفيه خلاف مشهور:

مذهب أصحابنا، وجماهير المتكلمين: أنه في القلب.

وقال أبو حنيفة: هو في الدماغ. وقد يقال: في الرأس.

وحكوا الأول أيضاً عن الفلاسفة. والثاني عن الأطباء.

قال المازري: واحتج القائلون بأنه في القلب بقوله تعالى: أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها، وقوله تعالى: إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب، وبهذا الحديث؛ فإنه جعل صلاح الجسد وفساده تابعاً للقلب؛ مع أن الدماغ من جملة الجسد؛ فيكون صلاحه وفساده تابعاً للقلب؛ فعلم أنه ليس محلاً للعقل.

واحتج القائلون بأنه في الدماغ: بأنه إذا فسد الدماغ، فسد العقل. ويكون من فساد الدماغ الصرع، في زعمهم.

ولا حجة لهم في ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى أجرى العادة بفساد العقل، عند فساد الدماغ؛ مع أن العقل ليس فيه، ولا امتناع من ذلك.

قال المازري: لا سيما على أصولهم في الاشتراك الذي يذكرونه بين الدماغ والقلب، وهم يجعلون بين رأس المعدة والدماغ اشتراكاً. والله أعلم". انتهى.

وقال ابن عطية في تفسيره لآية: أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور:

"هذه الآية تقتضي أن العقل في القلب، وذلك هو الحق. ولا يُنْكَر أن للدماغ اتصالاً بالقلب، يوجب فساد العقل متى اختل الدماغ" انتهى، من "التفسير" (4/127).

وقال الفخر الرازي في تفسيرها: "هل تدل الآية على أن العقل هو العلم، وعلى أن محل العلم هو القلب؟

الجواب: نعم؛ لأن المقصود من قوله: قلوب يعقلون بها: العلم. وقوله: يعقلون بها كالدلالة على أن القلب آلة لهذا التعقُّل، فوجب جعل القلب محلا للتعقل، ويسمى الجهل بالعمى؛ لأن الجاهل لكونه متحيرا، يشبه الأعمى" انتهى، من "التفسير الكبير" (23/234).

وقال القرطبي فيها أيضا: "فتكون لهم قلوب يعقلون بها: أضاف العقل إلى القلب لأنه محله، كما أن السمع محله الأذن" انتهى، من "التفسير" (12/77).


القول الثاني : أن العقل محله الدماغ.
وهذا القول مروي عن الإمام أبي حنيفة. وعليه بُني قول الحنفية في دية العقل، إذا ذهب بشج الرأس مأمومة أو موضحة؛ بأن على الجاني دية العقل فقط، دون دية المأمومة، أو أرش الموضحة. خلافا لمالك والشافعي.

قال الحطاب الرُّعيني في "مواهب الجليل" (1/232): "ينبني على هذا الخلاف: مسألة من الجراح، وهي: من شُجَّ في رأسه، مأمومةً أو موضحةً، خطأ، فذهب عقله، قال في المقدمات: فله على مذهب مالك دية العقل، ودية المأمومة أو الموضحة، لا يدخل بعض ذلك في بعض، إذ ليس الرأس عنده محل العقل، وإنما محله في مذهب مالك القلب، وهو قول أكثر أهل الشرع؛ فهو كمن فقأ عين رجل، وأذهب سمعه، في ضربة.

وعلى مذهب ابن الماجشون: إنما له دية العقل؛ لان محله عنده وعند أبي حنيفة: الرأس. وهو مذهب أكثر الفلاسفة، وهو كمن أذهب بصر رجل، وفقأ عينه، في ضربة.

وهذا في الخطأ.

وأما في العمد فيقتص منه، من الموضحة؛ فإن ذهب عقل المقتص منه: فواضح، وإن لم يذهب: فدية ذلك في مال الجاني. وفي المأمومة: له ديتها، ودية العقل".

وهذا القول مروي أيضا عن الإمام أحمد، فقد: "نَقل الفضيل بن زياد عنه، وقد سأله رجل عن العقل: أين منتهاه من البدن؟

فقال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: العقل في الرأس، أما سمعت إلى قولهم: وافر الدماغ والعقل؟ واحتج هذا القائل بأن الرأس إذا ضرب زال العقل. ولأن الناس يقولون: فلان خفيف الرأس وخفيف الدماغ، ويريدون به العقل" انتهى، من "الجامع لعلوم الإمام أحمد" (5/55).
 

وقال الطاهر ابن عاشور: "وأطلقت القلوب على تقاسيم العقل، على وجه المجاز المرسل، لأن القلب هو مُفيض الدم، وهو مادة الحياة على الأعضاء الرئيسية، وأهمها الدماغ الذي هو عضو العقل، ولذلك قال: يعقلون بها.

وإنما آلة العقل: هي الدماغ؛ ولكن الكلام جرَى أوله على متعارف أهل اللغة، ثم أجري عقب ذلك على الحقيقة العلمية، فقال: يعقلون بها؛ فأشار إلى أن القلوب هي العقل، ونزّلت عقولهم منزلة المعدوم، كما نزّل سَيْرهم في الأرض منزلة المعدوم" انتهى، من "التحرير والتنوير" (17/288).
 

القول الثالث، وهو قول بن تيمية: العقل قائم بالنفس، ومن حيثية البدن فهو متعلق بالقلب والدماغ، فيما انتهى إليه.
 قال رحمه الله: "وأما قوله: أين مسكن العقل فيه؟

فالعقل قائم بنفس الإنسان التي تعقل.

وأما من البدن فهو متعلق بقلبه، كما قال الله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا الحج/46،

وقيل لابن عباس: بماذا نلت العلم؟

قال: بلسان سئُول، وقلب عقول.

لكن لفظ القلب: قد يراد به المضغة الصنوبرية الشكل، التي في الجانب الأيسر من البدن، التي جوفها علقة سوداء، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد).

وقد يراد بالقلب: باطن الإنسان مطلقاً، فإن قلب الشيء باطنه، كقلب الحِنطة واللوزة والجوزة، ونحو ذلك، ومنه سمى القليب قليباً، لأنه أخرج قلبه، وهو باطنه.

وعلى هذا.. فإذا أريد بالقلب هذا؛ فالعقل متعلق بدماغه أيضاً، ولهذا قيل: إن العقل في الدماغ، كما يقوله كثير من الأطباء، ونقل ذلك عن الإمام أحمد، ويقول طائفة من أصحابه: إن أصل العقل في القلب، فإذا كمل انتهى إلى الدماغ.

والتحقيق: أن الروح التي هي النفس، لها تعلق بهذا وهذا، وما يتصف من العقل به، يتعلق بهذا وهذا؛ لكن مبدأ الفكر والنظر في الدماغ، ومبدأ الإرادة، وأصل الإرادة في القلب، والمريد لا يكون مريداً إلا بعد تصور المراد، فلا بد أن يكون القلب متصوراً، فيكون منه هذا وهذا، ويبتدئ ذلك من الدماغ، وآثاره صاعده إلى الدماغ، فمنه المبتدأ، وإليه الانتهاء.

وكلا القولين له وجه صحيح" انتهى، من "مجموع الفتاوى" (9/303).

رابعا: الترجيح

لعل أقرب الأقوال في هذا المسألة، لما نؤيده: هو قول شيخ الإسلام فيما يخص تعلق العقل بالنفس. وإن كنّا مع ذلك لا نعلم وجود تعلق مادي للعقل بالجسد، بحيث يكون له موضع منه، كما أشار الشيخ، والفريقان من العلماء؛ سواء من اختار الدماغ أو من اختار القلب.
ولكن لعل هؤلاء العلماء: إنما قصدوا بموضع العقل: الدور الإدراكي الفسيولوجي البسيط، الذي يؤديه الدماغ والحواس، ويؤثر، ويتأثر به العقل؛ لأننا نرى اتفاق كثير منهم على أن العقل غريزة غير مادية، تتعلق بالنفس، وهو ما صرح به شيخ الإسلام.

كما أن عامة من يقول: إن موضع ذلك هو القلب؛ يثبت أيضا دور الدماغ في ذلك، وأهميته وتأثيره.

لكن الوعي الذهني والشعور والتفكر والفهم والتعلم ونحو ذلك، يكون بغريزة مودعة، تزيد عن دور الدماغ.  فلعل الكثير منهم أراد وجود ارتباط بين هذه الغريزة، والجسم المادي؛ وليس تموضعا حقيقيا. وهذا صحيح بلا شك.
 وأيضا يجدر بالذكر أنه، ومن هذه الزاوية-الإدراك الفسيولوجي-: يترجح قول من قال بأن محل ذلك هو الدماغ، والجهاز العصبي، وهو ما يؤيده العلم الحديث. 

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب