الحمد لله.
نص بعض أهل العلم على أنّ المكروه يصبح معصية مع الإصرار والمداومة على الوقوع فيه.
قال ابن الحاج رحمه الله تعالى:
" وأما المكروه فقد قال علماؤنا رحمة الله عليهم: إن المداومة على المكروه يفسق فاعله. " انتهى، من "المدخل" (3 / 211).
وقال الشاطبي رحمه الله تعالى:
" ... فإن الإثم في المحرمة هو الظاهر، وأما المكروهة؛ فلا إثم فيها في الجملة؛ ما لم يقترن بها ما يوجبها، كالإصرار عليها، إذ الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة، فكذلك الإصرار على المكروه، فقد يصيره صغيرة... " انتهى، من "الاعتصام" (1 / 296).
وقال أيضا :
"إذا كان الفعل مكروها بالجزء، كان ممنوعا بالكل ، كاللعب بالشطرنج والنرد بغير مقامرة وسماع الغناء المكروه ، فإن مثل هذه الأشياء، إذا وقعت على غير مداومة: لم تقدح فى العدالة ، فإن داوم عليها، قدحت فى عدالته ، وذلك دليل على المنع بناء على أصل الغزالي .
قال محمد بن عبد الحكم في اللعب بالنرد والشطرنج : إن كان يكثر منه حتى يشغله عن الجماعة؛ لم تقبل شهادته.
وكذلك اللعب الذى يخرج به عن هيئة أهل المروءة، والحلول بمواطن التهم لغير عذر، وما أشبه ذلك" انتهى من "الموافقات" (1/133) .
كما أن الإكثار من المكروه قد يجعل في صاحبه جرأة على ارتكاب المحرم .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في شرح حديث ( الحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ...) قال :
" ونقل ابن المنير في مناقب شيخه القباري، عنه، أنه كان يقول: المكروه عقبة بين العبد والحرام، فمن استكثر من المكروه، تطرق إلى الحرام، والمباح عقبة بينه وبين المكروه، فمن استكثر منه تطرق إلى المكروه، وهو منزع حسن.
... ولا يخفى أن المستكثر من المكروه تصير فيه جرأة على ارتكاب المنهي في الجملة، أو يحمله اعتياده ارتكابَ المنهي غير المحرم، على ارتكاب المنهي المحرم إذا كان من جنسه، أو يكون ذلك لشبهة فيه وهو أن من تعاطى ما نهي عنه يصير مظلم القلب لفقدان نور الورع فيقع في الحرام ولو لم يختر الوقوع فيه " انتهى. "فتح الباري" (1 / 127).
وقال الشيخ عبد الله بن جبرين، رحمه الله:
" ذكر العلماء أن المكروه هو ما يُثاب تاركه احتسابًا ولا يُعاقب فاعله، فالمكروهات هي التي نهى الله عنها ورسوله، ولكن النهي لا يصل إلى حد التحريم الذي يمنع منه منعًا باتًا، فجعل النهي للكراهة، فمن فعل المكروه فإنه لا يُعاقب عقوبة فاعل الحرام لكن الإصرار على المكروهات وكثرة انتهاك المنهيات والتهاون بها يؤدي إلى رفض الأوامر والنواهي الشرعية وذلك مما يدل على عدم الاحترام للأدلة والتقيد بما ورد عليه نص فمع الكثرة والاستمرار قد يستحق العقاب إلا أن يعفو الله تعالى." انتهى، من موقع الشيخ رحمه الله:
http://www.ibn-jebreen.com/fatwa/vmasal-8735-.html
ونص آخرون على أن المكروه لا يصير بالإصرار محرما؛ لعدم وجود دليل على هذا.
فنص أبو طالب القضاعي في "تحرير المقال" (1 / 373): على أن الأظهر أن الإصرار حكمه حكم ما أصر عليه. وتبعه على هذا الشوكاني رحمه الله تعالى في "إرشاد الفحول" (1 / 268)، وينظر أيضا: "البحر المحيط" للزركشي (4/277).
ولا شك أن هذا قول ظاهر متجه، تدل عليه ظواهر الأدلة، والقواعد الشرعية.
وقد سئل الشيخ صالح الفوزان، حفظه الله:
"ما الفرق بين الحرام وعدم الجواز والمكروه . وهل الإصرار على المكروه يصل إلى الحرام ؟
الحرام ما يعاقب فاعله ويثاب تاركه ولا يجوز فعله . والمكروه : ما يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله؛ فالأولى عدم فعله.
والإصرار على فعل المكروه: لا يصل إلى التحريم؛ لكن قد يكون وسيلة إلى فعل الحرام، فالأولى تجنبه.
وإذا تحقق أنه وسيلة إلى الحرام فهو حرام." انتهى، من "المنتقى من فتاوى الفوزان" (3/78).
وإنما المخوف، على من يديم على فعل المكروهات، مع علمه بنهي الشريعة عنها، ولو نهيا تنزيهيا، أن يضعف في قلبه الوقوف مع أمر الشرع ونهيه، وبغض جنس المنهي عنه، ومحبة جنس المأمور به، وهذا من فقه قول من قال : إن المعاصي بريد الكفر، أو من رأى أن المكروهات، بريد الحرام، يعني: أن إدامة سلوك طريق المنهي عنه ، المكروه، يسهل على صاحبه الوقوع في المنهي عنه، الحرام، ويسلك به مسلكه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " الإنسان لا يفعل الحرام إلا لضعف إيمانه ومحبته ، وإذا فعل مكروهات الحق فلضعف بغضها في قلبه ، أو لقوة محبتها التي تغلب بغضها ، فالإنسان لا يأتي شيئا من المحرمات ، كالفواحش ما ظهر منها وما بطن ، والإثم والبغي بغير الحق ، والشرك بالله ما لم ينزل به سلطانا ، والقول على الله بغير علم : إلا لضعف الإيمان في أصله ، أو كماله ، أو ضعف العلم والتصديق ، وإما ضعف المحبة والبغض .
لكن إذا كان أصل الإيمان صحيحا وهو التصديق ، فإن هذه المحرمات يفعلها المؤمن مع كراهته وبغضه لها ، فهو إذا فعلها لغلبة الشهوة عليه ، فلا بد أن يكون مع فعلها : فيه بغض لها ، وفيه خوف من عقاب الله عليها ، وفيه رجاء لأن يخلص من عقابها ، إما بتوبة وإما حسنات ، وإما عفو ، وإما دون ذلك ، وإلا فإذا لم يبغضها ، ولم يخف الله فيها ، ولم يرج رحمته ، فهذا لا يكون مؤمنا بحال ، بل هو كافر أو منافق" انتهى، من "جامع الرسائل" (2/290).
وعلى كل حال؛ فالذي ينبغي للمسلم أن يجتنب المكروه ، طلبا للسلامة لدينه ، وبعدا على الحرام.
ثانيا:
تقييد الإصرار بأكثر من ثلاث مرات قول لا دليل .
وقد اختلف العلماء في ضابط الإصرار على الصغيرة الذي يجعلها كبيرة ، فذهب بعضهم إلى أنه العزم على العودة إليها ، وذهب آخرون إلى أنه المداومة عليها، مداومة تشعر بقلة مبالاة صاحبها ، كفاعل الكبيرة .
جاء في الموسوعة الفقهية (34/157) :
"وَأَمَّا حَقِيقَةُ التَّكْرَارِ الْمُشْتَرَطِ فِي تَحَقُّقِ الإْصْرَارِ فَيُعْرَفُ مِنْ تَقْسِيمِ الزَّرْكَشِيِّ الإْصْرَارَ إِلَى قِسْمَيْنِ:
( أَحَدِهِمَا ) حُكْمِيٌّ ، وَهُوَ الْعَزْمُ عَلَى فِعْل الصَّغِيرَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا ، فَهَذَا حُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ كَرَّرَهَا فِعْلاً ، بِخِلاَفِ التَّائِبِ مِنْهَا ، فَلَوْ ذَهِل عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَى شَيْءٍ فَهَذَا هُوَ الَّذِي تُكَفِّرُهُ الأْعْمَال الصَّالِحَةُ .
( وَالثَّانِي ) الإْصْرَارُ بِالْفِعْل ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُهُمْ بِالْمُدَاوَمَةِ أَوِ الإْدْمَانِ ، وَعَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ قَال : لاَ أَجْعَل الْمُقِيمَ عَلَى الصَّغِيرَةِ الْمَعْفُوِّ عَنْهَا مُرْتَكِبًا لِلْكَبِيرَةِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا عَلَى الْمَعْصِيَةِ الْمُخَالِفَةِ أَمْرَ اللَّهِ دَائِمًا ، وَنَحْوُهُ فِي الْمُغْنِي لاِبْنِ قُدَامَة" انتهى .
وينظر كلام الزركشي بنصه في "البحر المحيط" (4/277-278).
والله أعلم.
تعليق