الحمد لله.
انتشر بين كثير من الناس ، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قيل له : " ألا تكسو الكعبة بالحرير ؟ قال : بطون المسلمين أولى " !! .
ولم نقف لذلك القول على أثر في كتب السنة والآثار ، ولا في غيرها من المصنفات ، بحسب ما بحثنا ، ولم نقف أيضا على أحد من أهل العلم المعتبرين ذكره في كتابه .
فلا يجوز نشره ، والحال ما ذكر ، ولا نسبته إلى عمر رضي الله عنه .
ولكن صح أن عمر رضي الله عنه أراد أن يقسم كنز الكعبة المدفون فيها على فقراء المسلمين ، فلما أُخبر بأن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر لما يفعلا ذلك ، توقف عنه واقتدى بهما.
ففي "صحيح البخاري" (1594) عَنْ وَاصِلٍ ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ ، قَالَ : جَلَسْتُ مَعَ شَيْبَةَ عَلَى الكُرْسِيِّ فِي الكَعْبَةِ ، فَقَالَ : لَقَدْ جَلَسَ هَذَا المَجْلِسَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَقَالَ : " لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لاَ أَدَعَ فِيهَا صَفْرَاءَ وَلاَ بَيْضَاءَ إِلَّا قَسَمْتُهُ " .
قُلْتُ : إِنَّ صَاحِبَيْكَ لَمْ يَفْعَلاَ !!
قَالَ : " هُمَا المَرْءَانِ أَقْتَدِي بِهِمَا ".
وصح عَنْ شَقِيقٍ أنه قَالَ : بَعَثَ رَجُلٌ مَعِيَ بِدَرَاهِمَ هَدِيَّةً إِلَى الْبَيْتِ ، قَالَ : فَدَخَلْتُ الْبَيْتَ ، وَشَيْبَةُ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ ، فَنَاوَلْتُهُ إِيَّاهَا ، فَقَالَ: أَلَكَ هَذِهِ ؟
قُلْتُ: لَا ، وَلَوْ كَانَتْ لِي لَمْ آتِكَ بِهَا .
قَالَ : أَمَا لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ ، لَقَدْ جَلَسَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَجْلِسَكَ الَّذِي جَلَسْتَ فِيهِ ، فَقَالَ : لَا أَخْرُجُ حَتَّى أَقْسِمَ مَالَ الْكَعْبَةِ بَيْنَ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، قُلْتُ : مَا أَنْتَ فَاعِلٌ ، قَالَ : لَأَفْعَلَنَّ ، قَالَ : وَلِمَ ذَاكَ ؟ قُلْتُ : لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ رَأَى مَكَانَهُ وَأَبُو بَكْرٍ ، وَهُمَا أَحْوَجُ مِنْكَ إِلَى الْمَالِ ، فَلَمْ يُحَرِّكَاهُ ، فَقَامَ كَمَا هُوَ، فَخَرَجَ .
أخرجه ابن ماجه (3116)، وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه" (2546)، والأرناؤوط في "تحقيق سنن ابن ماجه".
قال الحافظ ابن حجر : " قال ابن بطال : أراد عمر لكثرته إنفاقه في منافع المسلمين ، ثم لما ذكر بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرض له ، أمسك .
وإنما تركا ذلك - والله أعلم- ؛ لأن ما جعل في الكعبة ، وسُبِّل لها : يجري مجرى الأوقاف ؛ فلا يجوز تغييره عن وجهه ، وفي ذلك تعظيم الإسلام وترهيب العدو .
قلت : أما التعليل الأول : فليس بظاهر من الحديث ؛ بل يحتمل أن يكون تركه صلى الله عليه وسلم لذلك رعاية لقلوب قريش ، كما ترك بناء الكعبة على قواعد إبراهيم .
ويؤيده ما وقع عند مسلم في بعض طرق حديث عائشة في بناء الكعبة : (لأنفقت كنز الكعبة) ، ولفظه : ( لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ولجعلت بابها بالأرض ) الحديث .
فهذا التعليل هو المعتمد " انتهى من "فتح الباري" (3/ 456).
وجاء عنه رضي الله تعالى عنه أنه كسا الكعبة القَباطي من بيت المال ، فجاء في "أخبار مكة" للأزرقي (1/ 253) : عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ أَبِيهِ " أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَسَا الْكَعْبَةَ الْقَبَاطِيَّ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، وَكَانَ يَكْتُبُ فِيهَا إِلَى مِصْرَ ، تُحَاكُ لَهُ هُنَاكَ. ثُمَّ عُثْمَانُ مِنْ بَعْدِهِ .
فَلَمَّا كَانَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ كَسَاهَا كِسْوَتَيْنِ : كِسْوَةَ عُمَرَ الْقَبَاطِيَّ ، وَكِسْوَةَ دِيبَاجٍ ، فَكَانَتْ تُكْسَى الدِّيبَاجَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ ، وَتُكْسَى الْقَبَاطِيَّ فِي آخِرِ شَهْرِ رَمَضَانَ لِلْفِطْرِ ، وَأَجْرَى لَهَا مُعَاوِيَةُ وَظِيفَةً مِنَ الطِّيبِ لِكُلِّ صَلَاةٍ ، وَكَانَ يَبْعَثُ بِالطِّيبِ وَالْمُجْمَرِ وَالْخَلُوقِ فِي الْمَوْسِمِ وَفِي رَجَبٍ ، وَأَخْدَمَهَا عَبِيدًا بَعَثَ بِهِمْ إِلَيْهَا ، فَكَانُوا يَخْدُمُونَهَا ، ثُمَّ اتَّبَعَتْ ذَلِكَ الْوُلَاةُ بَعْدَهُ " انتهى .
والقباطي : ثوب أبيض رقيق كان ينسج بمصر ، وكأنه منسوب إلى القبط ، وهم أهل مصر .
ينظر "النهاية" لابن الأثير (4/10) .
فهذا الأثر يدل على بطلان الأثر الوارد في السؤال .
وإن صح الأثر الوارد في السؤال ، فلعله كان في وقت حاجة المسلمين وفقرهم ، كعام الرمادة.
والله أعلم .
تعليق