الحمد لله.
أولا:
المرأة المسلمة العربية يجوز أن تتزوج من مسلم غير عربي، إذا رضيت بذلك ورضي أولياؤها. هذا عند الشافعي وغيره.
لأن "الكفاءة" ليست شرطا لصحة النكاح، ولكنها حق للزوجة، وحق للأولياء.
ومعنى كونها حقا للزوجة: أن وليها لو زوجها من غير كفء، فلها الفسخ. ولو زوجها أحد الأولياء من غير كفء، فللأولياء المساوين له في الدرجة الفسخ؛ لأن تزويج المرأة من غير كفء يدخل عليهم النقص والعار.
قال الماوردي الشافعي رحمه الله: "وإذا كان الأقرب من أوليائها واحدا، فرضي ورضيت بغير كفء فزوجها به وأنكره باقي الأولياء فلا اعتراض لهم والنكاح ماض، لأن الأقرب قد حجب الأباعد عن الولاية فلم يكن لهم اعتراض كما لم يكن لهم ولاية...
قال الشافعي رحمه الله: وليس نكاح غير الكفؤ بمحرم فأردّه بكل حال، إنما هو تقصير عن المزوجة، والولاة " انتهى من "الحاوي" (9/ 100).
ثانيا:
الراجح في الكفاءة: أنها تعتبر في "الدين" فقط، فلا تزوج المسلمة من كافر، ولا العفيفة من فاسق.
وأما النسب، والمال، والصنعة، فلا تعتبر، فلا اعتراض على الولي لو زوج عربية بغير عربي، أو قرشية بغير قرشي.
وأما المذهب الشافعي فيرون الكفاءة معتبرة في الدين والنسب والحرية والكسب (الصنعة).
والحامل لهم على اعتبار الكفاءة في النسب ليس العصبية للعرب، وإنما بعض الأحاديث التي فُهمَ منها أن العرب لا يكافئهم غيرهم، وأن قريشا لا يكافئها غيرهم من العرب.
ونسوق إليك ما استدل به الشافعية، ثم نبين جواب الفقهاء الآخرين الذين لم يعتبروا النسب في الكفاءة.
قال الماوردي رحمه الله: "فأما الشرط الثاني: وهو " النسب " فمعتبر بقوله صلى الله عليه وسلم : " تنكح المرأة لأربع: لمالها، وحسبها " يعني بالحسب النسب ".
وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إياكم وخضراء الدمن " وما خضراء الدمن؟ قال: ذلك مثل المرأة الحسناء من أصل خبيث ".
وإذا كان كذلك فالناس يترتبون في أصل الأنساب ثلاث مراتب: قريش، ثم سائر العرب، ثم العجم.
فأما قريش فهي أشرف الأمم، لما خصهم الله تعالى به من رسالته وفضلهم به من نبوته ولقوله صلى الله عليه وسلم : " قدموا قريشا ولا تقدموها، وتعلموا من قريش ولا تعلموها " فلا يكافئ قريشا أحد من العرب والعجم...
وأما سائر العجم، فعلى قياس قول البصريين: أن جميعهم أكفاء للفرس منهم، والنبط، والترك، والقبط.
وعلى قياس قول البغداديين إنهم يتفاضلون في الكفاءة، فالفرس أفضل من النبط لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لو كان الدين معلق بالثريا لتناوله قوم من أبناء فارس ".
وبنو إسرائيل أفضل من القبط لسلفهم وكثرة الأنبياء فيهم" انتهى من "الحاوي" (9/ 102- 104).
فالأمر لا علاقة له بالعصبية، وإنما هو الاجتهاد في فهم هذه الأحاديث.
ولهذا أجاب الذين لا يعتبرون النسب في الكفاءة: بأنه ليس في الأحاديث اشتراط النسب في الكفاءة، وغايته بيان فضل قريش أو فضل العرب.
وقد زوّج النبي صلى الله عليه وسلم القرشية من غير القرشي، بل زوج القرشية من المولى ، وتزوج بلال الحبشي رضي الله عنه أخت عبد الرحمن بن عوف، وهي قرشية .
قال ابن قدامة رحمه الله: "وقالت عائشة - رضي الله عنها -. إن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة تبنّى سالما، وأنكحه ابنة أخيه هند ابنة الوليد بن عتبة، وهو مولى لامرأة من الأنصار. أخرجه البخاري.
وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فاطمة بنت قيس أن تنكح أسامة بن زيد مولاه، فنكحها بأمره. متفق عليه
وزوج أباه زيدَ بن حارثة، ابنة عمته زينب بنت جحش الأسدية.
وقال ابن مسعود لأخته: أنشدك الله أن تتزوجي مسلما، وإن كان أحمر روميا، أو أسود حبشيا" انتهى من "المغني" (7/ 34).
ولهذا قلنا: إن الراجح أن الكفاءة معتبرة في الدين فقط.
قال ابن القيم رحمه الله : " فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في الكفاءة في النكاح
قال الله تعالى : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) الحجرات/ 13 . وقال تعالى : ( إنما المؤمنون إخوة ) الحجرات/10 . وقال : ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) التوبة/71 ...
وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمى على عربي ، ولا لأبيض على أسود . ولا لأسود على أبيض ، إلا بالتقوى ، الناس من آدم ، وآدم من تراب ) [رواه الترمذي (3270) وحسنه الألباني] .
وفي الترمذي (1085) عنه صلى الله عليه وسلم : ( إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ، إلا تفعلوه ، تكن فتنة في الأرض وفساد كبير . قالوا : يا رسول الله ! وإن كان فيه ؟ فقال : إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ، ثلاث مرات ). [ حسنه الألباني ] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لبني بياضة: ( أنكحوا أبا هند ، وانكحوا إليه )، وكان حجاما. وزوّج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش القرشية من زيد بن حارثة مولاه ، وزوج فاطمة بنت قيس الفهرية القرشية من أسامة ابنه ، وتزوج بلال بن رباح بأخت عبد الرحمن بن عوف .
وقد قال الله تعالى : ( والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات ) النور/26 . وقد قال تعالى : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء) النساء/3.
فالذي يقتضيه حكمه صلى الله عليه وسلم اعتبار الدين في الكفاءة أصلا وكمالا ، فلا تزوج مسلمة بكافر ، ولا عفيفة بفاجر ، ولم يعتبر القرآن والسنة في الكفاءة أمرا وراء ذلك ، فإنه حرم على المسلمة نكاح الزاني الخبيث ، ولم يعتبر نسبا ولا صناعة ، ولا غنى ولا حرية ، فجوز للعبد القن نكاح الحرة النسيبة الغنية، إذا كان عفيفا مسلما ، وجوز لغير القرشيين نكاح القرشيات ، ولغير الهاشميين نكاح الهاشميات ، وللفقراء نكاح الموسرات " .
وقال : " وقد تنازع الفقهاء في أوصاف الكفاءة ، فقال مالك في ظاهر مذهبه: إنها الدين ، وفي رواية عنه : إنها ثلاثة : الدين ، والحرية ، والسلامة من العيوب " انتهى ـ باختصار ـ من "زاد المعاد" (5/144).
والقول بأن المعتبر في الكفاءة هو الدين فقط: يروي عن عمر وابن مسعود ومحمد بن سيرين وعمر بن عبد العزيز ، وبه جزم الإمام مالك ، وهو رواية عن أحمد ، واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهم الله .
ثالثا:
هذه مسألة فقهية اجتهادية، ينطلق الفقهاء فيها من خلال فهمهم للنصوص، لا من منطلق العصبية كما ظننت. وكثير من الفقهاء الذين يقررون اعتبار النسب في الكفاءة كانوا من العجم، ولم يكونوا عربا!
وأنت، يا عبد الله؛ إنما يجب أن تنشغل بأصل الدين، وأن تبحث عن طريق النجاة، وألا يصدك عن الهدى اجتهاد فقيه، أو سلوك منتمٍ إلى الدين.
فانصح لنفسك، وسارع بها إلى بر النجاة، وصراط الله المستقيم.
وإننا لنرجو من الله أن يوفقك، وأن يشرح صدرك للحق، وأن يسلك بك في عباده الصالحين الفائزين.
والله أعلم.
تعليق