الحمد لله.
أولا: خديجة رضي الله عنها أول من آمن بالله ورسوله
قد وردت أخبار؛ تشير إلى أن خَدِيجَةَ رضي الله عنها، كَانَتْ أوَّل من آمَن باللّه ورسوله.
وهذا يقتضيه حديث بداية نزول الوحي.
عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: " أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلاَءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ المَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ! قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ! قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ! فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ) فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي! فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الخَبَرَ: لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي ".
فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ... " رواه البخاري (3)، ومسلم (160).
قال ابن حزم رحمه الله تعالى:
" ... وأول ما أتاه جاءه الملك فقال له: اقرأ! فقال: ما أنا بقارئ، فغطه حتى بلغ منه الجهد، ثم أرسله، فقال: اقرأ! فقال: ما أنا بقارئ، فغطه الثانية كذلك، ثم أرسله، فقال: اقرأ! مرتين أو ثلاثاً، فقال له: ماذا أقرأ؟ فقال: ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ). وهذا أول ما نزل من القرآن.
فأتى بها النبي صلى الله عليه وسلم خديجة أم المؤمنين، فكانت أول من آمن... " انتهى من "جوامع السيرة" (ص 44 - 45).
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" وهي أول من آمن بالله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا قول قتادة، والزهري، وعبد الله بن محمد بن عقيل، وابن إسحاق، وجماعة؛ قالوا: خديجة أول من آمن بالله من الرجال والنساء ولم يستثنوا أحدا.
وذكر ابن أبي خيثمة في أول كتاب المكيين قال: وكان أول من آمن بالله ورسوله = فيما قال محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وعبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب، وقتادة بن دعامة السدوسي، ومحمد بن إسحاق، وأبو رافع، وابن عباس- فذكر الأسانيد عن الزهري وابن عقيل وقتادة وابن إسحاق = خديجة بنت خويلد... " انتهى من "الاستيعاب" (3 / 1819).
ثانيا: تميزت خديجة رضي الله عنها بصفات أهمها كمال العقل ورجاحته
لا شك أن خديجة رضي الله عنها كانت تتميز بكمال العقل ورجاحته، كما سبق في موقفها من حادثة الوحي في حديث عائشة رضي الله عنها، وعلق عليه الإمام النووي رحمه الله تعالى، بقوله:
" وفيه أعظم دليل وأبلغ حجة على كمال خديجة رضي الله عنها، وجزالة رأيها، وقوة نفسها، وثبات قلبها، وعظم فقهها " انتهى من "شرح صحيح مسلم" (2 / 202).
لكن ينبغي التنبه إلى أنها رضي الله عنها توفيت ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم في بداياتها، حيث توفيت قبل الهجرة بثلاث سنين.
عَنْ عروة بن الزبير، قَالَ: " تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ قَبْلَ مَخْرَجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى المَدِينَةِ بِثَلاَثِ سِنِينَ "رواه البخاري (3896).
فكانت دعوة الإسلام يومئذ إلى أصول الإيمان وأمهات الآداب والأخلاق.
وأما أحكام الشرع العملية وتفاصيلها فأكثرها شرع بعد وفاتها رضي الله عنها ، فالصلاة والزكاة والصيام والحج وهي أفضل عبادات الإسلام شرعت بعد وفاتها.
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ابْنَةِ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنها ذكرت وصف جَعْفَر بْن أَبِي طَالِبٍ للنجاشي دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ: "أَيُّهَا الْمَلِكُ! كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى بَعَثَ اللهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ، وَصِدْقَهُ، وَأَمَانَتَهُ، وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللهِ لِنُوَحِّدَهُ، وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ.
وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ، وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ... " رواه الإمام أحمد في "المسند" (3 / 263 - 268)، وحسنه محققو المسند.
فلذا لا يمكن مقارنة علم خديجة بعلم سائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، لأن أكثر الأحكام الشرعية لم تكن شرعت حينئذ ، وإنما شرعت في المدينة بعد الهجرة .
ثالثا: كثير من أحكام الشرع العملية وتفاصيلها فرضت بعد وفاة خديجة رضي الله عنها
فرض الحجاب نزل في آية الحجاب من سورة "الأحزاب"، ونزلت هذه الآية صبيحة عرس الرسول صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها.
عن أنس بن مالك؛ حيث قال رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " لَمَّا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ ابنة جَحْشٍ، دَعَا القَوْمَ فَطَعِمُوا ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ، وَإِذَا هُوَ يتأهّبُ لِلْقِيَامِ، فَلَمْ يَقُومُوا. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَامَ، فَلَمَّا قَامَ قَامَ مَنْ قَامَ، وَقَعَدَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَدْخُلَ فَإِذَا القَوْمُ جُلُوسٌ، ثُمَّ إِنَّهُمْ قَامُوا، فَانْطَلَقْتُ فَجِئْتُ فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ قَدِ انْطَلَقُوا، فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ، فَذَهَبْتُ أَدْخُلُ، فَأَلْقَى الحِجَابَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ الآيَةَ" رواه البخاري (4791)، ومسلم (1428).
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" وكان وقت نزولها في صبيحة عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش، التي تولى الله تعالى تزويجها بنفسه " انتهى من "تفسير ابن كثير" (6 / 451).
وهذا الحادثة وقعت في سنة خمس بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. " انتهى من "البداية والنهاية" لابن كثير (6 / 155).
وأما خديجة رضي الله عنها؛ فإنها توفيت في مكة قبل الهجرة، فلم تدرك زمن فرض الحجاب.
والله أعلم.
تعليق