الهوى هو ميل النفس إلى ما تستلذه من الشهوات. فإن مالت النفس إلى ما يخالف الشرع كان مذموما ، وإن مالت إلى ما يوافق الشرع كان محمودا .
قال ابن القيم رحمه الله:
"الهوى: ميل الطبع إلى ما يلائمه. وهذا الميل خلق في الإنسان لضرورة بقائه، فإنه لولا ميله إلى المطعم والمشرب والمنكح ، ما أكل ولا شرب ولا نكح. فالهوى مستحِثٌّ لما يريده ، كما أن الغضب دافع عنه ما يؤذيه ، فلا ينبغي ذم الهوى مطلقا ، ولا مدحه مطلقا، كما أن الغضب لا يذم مطلقا ، ولا يحمد مطلقا ، وإنما يذم المفرط من النوعين ، وهو ما زاد على جلب المنافع ودفع المضار" انتهى.
على أن أكثر إطلاق الهوى في النصوص الشرعية إنما جاء في سياق الذم ، حتى قال ابن عباس رضي الله عنهما : "ما ذكر الله عز وجل الهوى في موضع من كتابه إلا ذمه" .
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله :
"والمعروف في استعمال الهوى عند الإطلاق: أنه الميل إلى خلاف الحق ، كما في قوله تعالى : (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) ص/26 ، وقال تعالى : (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى) النازعات/40-41.
وقد يطلق الهوى بمعنى المحبة والميل مطلقا ، فيدخل فيه الميل إلى الحق وغيره" انتهى .
وقد قيل : إن هوى النفس مأخوذ من الهوي وهو السقوط ، لأنه يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية ، وفي الآخرة إلى الهاوية .
وعرف بعضهم اتباع الهوى بأنه الانقياد للنفس فيما تدعو إليه من معاصي الله عز وجل .
مخاطر اتباع الهوى :
1 – فساد الكون والحياة والخروج عن حد الصلاح والاستقامة ، (وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) المؤمنون/71.
2 – اتباع الهوى سببٌ لفساد الرأي والوقوع في التناقض : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) الكهف/28.
3 – اتباع الهوى ضلال وخروج عن منهج الله : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه ، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك ولا يطلبه ، ولا يرضى لرضا الله ورسوله ، ولا يغضب لغضب الله ورسوله ، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه ، ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه" انتهى . منهاج السنة النبوية (5/255-256) .القصص/50 .
4 – اتباع الهوى يصد عن الحق ويصم صاحبه عن الانتفاع بالمواعظ : (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) القصص/50 .
5 – اتباع الهوى يجعل الإنسان عبدًا لهواه : (أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) الفرقان/43 .
قال قتادة رحمه الله : إن الرجل إذا كان كلما هوي شيئا ركبه ، وكما اشتهى شيئا أتاه ، لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى فقد اتخذ إلهه هواه.
6- اتباع الهوى يجر الإنسان إلى المعاصي والبدع.
قال ابن رجب رحمه الله :
"فجميع المعاصي إنما تنشأ من تقديم هوى النفوس على محبة الله ورسوله ...
وكذلك البدع إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع ، ولهذا يسمى أهلها أهل الأهواء .
وكذلك المعاصي إنما تقع من تقديم الهوى على محبة الله ورسوله ، ومحبة ما يحبه" انتهى.
مما يعين على مخالفة الإنسان لهواه:
1 – استحضار العبد مخاطر اتباع الهوى وآثاره السيئة في الدنيا والآخرة ، والتي سبق ذكر بعضها .
2 – أن يكون للإنسان عقل يزجره عن اتباع شهوة عاجلة تورث غما عاجلا وآجلا ، وهذا العقل هو الذي يميز الإنسان بين ما ينفعه وما يضره ، وهو الذي فضله الله به على سائر الحيوان .
3 – معرفة أن هذا الذي تميل إليه نفسك من المحرمات هو ابتلاء من الله تعالى ، ليعلم مدى ثباتك ، ومقاومتك لنفسك ، وتقديمك ما يحبه الله تعالى على ما تحبه نفسك .
4 – الاستعانة بالله تعالى ودعائه ، كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : (اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء) رواه الترمذي (3591) وصححه الألباني .
5 – امتلاء القلب بالخوف من الله تعالى ، أن يعاقبه على ميله مع هواه في الدنيا والآخرة ، قال الله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) النازعات/40-41.
قال مجاهد : هو العبد يهوى المعصية، فيذكر مقام ربه عليه في الدنيا ، ومقامه بين يديه في الآخرة فيتركها لله .
6 – العزيمة والإرادة.
أن يكون عند الإنسان عزيمة تعين النفس على مقاومة هواها وشهواتها .
7 – التفكر في العاقبة.
قال ابن الجوزي رحمه الله في بيان علاج اتباع الهوى والشهوات:
"والثاني: أن يفكر في عواقب الهوى .
فكم قد أفات من فضيلة ! وكم قد أوقع في رذيلة ! وكم من مَطْعم قد أوقع في مرض ! وكم من زلة أوجبت انكسار جاه وقبح ذكر مع إثم ! غير أن صاحب الهوى ، لا يرى إلا الهوى؛ فأقرب الأشياء شبها به من في المدبغة ، فإنه لا يجد ريحها، حتى يخرج، فيعلم أين كان" انتهى.
8-اتباع الهوى يسقط الإنسان ويحط منزلته بين الناس .
كما قال القائل :
إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى إلى كل ما فيه عليك مقال
9– تذكر الإنسان أنه لم يخلق لاتباع الهوى ، وإنما خلق لعبادة الله تعالى : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) الذاريات/56 .
10 – اتباع الهوى يلحق الإنسان بالبهائم ، حيث تقف مع شهواتها ، لا هم لها إلا ذلك .
قد هيئوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
قال ابن الجوزي رحمه الله :
"وبهذا القدر فضل الآدمي على البهائم أعني ملكة الإرادة ، لأن البهائم واقفة مع طباعها لا نظر لها إلى عاقبة ، ولا فكر في مآل ، فهي تتناول ما يدعوها إليه الطبع من الغذاء إذا حضر، وتفعل ما تحتاج إليه من الروث والبول أي وقت اتفق، والآدمي يمتنع عن ذلك بقهر عقله لطبعه" انتهى.
11 – تفكر الإنسان فيما يعقب اللذة من الحسرة والألم ، ثم العقاب والعذاب الشديد .
12 – التأمل في الأمثال التي ضربها الله تعالى لمن اتبع هواه ، (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) الأعراف/175-176.
فهذا رجل آتاه الله العلم والكتاب، ولكنه لم يقبل هدى الله ، ومال إلى الشهوات السفلية والمقاصد الدنيوية ، واتبع هواه ، فكان كالكلب الذي يلهث في كل حال ، فكذلك هذا لا ينتفع بالموعظة والدعاء إلى الإيمان ولا عدمه .
فكل من اتبع هواه في مخالفة الحق ، فقد رضي لنفسه بأن يكون كالكلب ، الذي هو أخس الحيوانات .
13- الوقوف على حقيقة أن الهوى مهلك لصاحبه في الدنيا والآخرة .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : (ثلاث مهلكات : شح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه) رواه الطبراني في "الأوسط" (5754) وحسنه الألباني "صحيح الترغيب والترهيب" (543) .
14 – ممن يخالف هواه كان، من يكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، منهم : (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال ، فقال : إني أخاف الله) متفق عليه .
بل ذكر ابن القيم رحمه الله أن السبعة المذكورين في الحديث جميعا إنما فازوا بتلك المنقبة العظيمة لأنهم خالفوا هواهم، وقدموا مرضاة الله على ما تهواه أنفسهم .
15– استحضار اطلاع الله تعالى على العبد ومراقبته له ، ومعيته معه (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) المجادلة/7.
وقال صلى الله عليه وسلم : (اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) متفق عليه .
16- اتباع الهوى يوقع صاحبه في الضلال ولابد .
قال تعالى : (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) ص/26 .
17 – مراقبة النفس ومحاسبتها وعدم مجاراتها في شهواتها .
18 - مصاحبة الأخيار وملازمتهم واجتناب أهل الأهواء ، لأنه كما قيل : (الصاحب ساحب) .
19 – معرفة حقيقة الدنيا ، وأنها دار ابتلاء واختبار .
20 – الوقوف على سير أهل الأهواء وسوء عاقبتهم في الدنيا والآخرة .
21 – اليقين التام بأن السعادة والطمأنينة وراحة النفس هي في اتباع هدى الله ، وعدم اتباع هوى النفس .
22 – أن يعود الإنسان نفسه مخالفة هواها ، وليعلم أن هذا ليس بالأمر السهل ، بل يحتاج إلى معاناة ، ومجاهدة ، قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) العنكبوت/69.
قال الشاطبي رحمه الله تعالى : "مخالفة ما تهوى الأنفس شاقٌ عليها، وصعبٌ خروجها عنه، ولذلك بلغ الهوى بأهله مبالغ لا يبلغها غيرهم، وكفى شاهداً على ذلك حال المحبين، وحال من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين وأهل الكتاب، وغيرهم ممن صمم على ما هو عليه حتى رضوا بإهلاك النفوس والأموال" انتهى "الموافقات" (2/264).
فلابد من صبر وتحمل مرارة فراق المعصية ومقاومتها ، حتى يعقب ذلك حلاوة الإيمان ، وثمرة انتصار الإنسان على نفسه .
وكثيرا ما يكون الدواء مرًّا ، ولكن لابد من تحمله لما يرجو الإنسان بعده من العافية .
نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن خاف مقام ربه ، ونهى النفس عن الهوى .
ينظر : "موسوعة نصرة النعيم" (9/3751-3770) . كتاب ذم الهوى لابن الجوزي . روضة المحبين لابن القيم ، فإنه ذكر في آخره : الباب التاسع والعشرون في ذم الهوى وما في مخالفته من نيل المنى . "جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبلي ، شرح الحديث رقم: (41) .
والله أعلم.