الحمد لله.
أولا:
تحريم النمص
النمص محرم تحريما بيناً، فقد روى البخاري (4886) ومسلم (2125) واللفظ له عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: " لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ وَالنَّامِصَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ ".
قَالَ فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ، وَكَانَتْ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَأَتَتْهُ فَقَالَتْ مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ؛ أَنَّكَ لَعَنْتَ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ ؟
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَمَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ؟ فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ لَوْحَيْ الْمُصْحَفِ، فَمَا وَجَدْتُهُ؟
فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ، لَقَدْ وَجَدْتِيهِ؛ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ".
ما هو النمص؟
والنمص نتف شعر الوجه، أو الحاجبين خاصة، لا القص، ولا الحلق.
قال ابن قدامة رحمه الله: "فأما النامصة: فهي التي تنتف الشعر من الوجه، والمتنمصة: المنتوف شعرها بأمرها؛ فلا يجوز، للخبر. وإن حلق الشعر: فلا بأس؛ لأن الخبر إنما ورد في النتف. نص على هذا أحمد." انتهى من "المغني" (1/ 107).
وقال في "كشاف القناع" (1/ 81): " (ويحرم نمص) وهو نتف الشعر من الوجه." انتهى.
وسئل الإمام أحمد رحمه الله "عن النامصة والمتنمصة؟
فقال: هي التي تنتف الشعر؛ فأما الحلق: فلا. قيل له: فما تقول في النتف؟
قال: الحلق غير النتف. النتف تغيير. فرخص في الحلق؟" انتهى من "الوقوف والترجل من الجامع لمسائل الإمام أحمد بن حنبل"، للخلال، ص 157.
ثانيا:
علة تحريم النمص
من أهل العلم من قال: إن علة التحريم هي الغش والتدليس، ولهذا يجوز أن تفعله للزوج. وهذا لا يصح من وجوه:
الأول: أن النص بيّن العلة، وأنها: تغيير خلق الله.
الثاني: أن النمص والوشم والوصل من جنس واحد، وقد علل النبي صلى الله عليه وسلم تحريمه بعلة واحدة، هي تغيير خلق الله لأجل الحُسن.
وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم لم يرخص للمتزوجة في وصل شعرها، مع إذن زوجها، بل وأمره لها بذلك.
فقد روى البخاري (5205)، واللفظ له، ومسلم (2123) عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ زَوَّجَتِ ابْنَتَهَا، فَتَمَعَّطَ شَعَرُ رَأْسِهَا، فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَتْ: إِنَّ زَوْجَهَا أَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ فِي شَعَرِهَا، فَقَالَ: لاَ، إِنَّهُ قَدْ لُعِنَ المُوصِلاَتُ .
الثالث: أن استدلالهم على أن العلة التدليس بما جاء عن عائشة رضي الله عنها، فإنه لا يثبت، ولو ثبت لم يكن دليلا على المدعى.
والأثر رواه ابن سعد في "الطبقات" (8/ 70) من طريق بكرة بنت عقبة: "أنها دخلت على عائشة وهي جالسة في معصفرة، فسألتها عن الحناء، فقالت: شجرة طيبة وماء طهور. وسألتها عن الحفاف، فقالت لها: إن كان لك زوج، فاستطعت أن تنزعي مقلتيك، فتصنعيهما أحسن مما هما؛ فافعلي". وأورده الذهبي في ترجمة عائشة. "سير أعلام النبلاء" (2/ 188).
وبكرة بنت عقبة لم يذكرها إلا ابن حبان، وهو معروف بتوثيق المجاهيل، ولذا قال محقق سير أعلام النبلاء: "رجاله ثقات، خلا بكرة بنت عقبة فإنها لا تعرف...
والحفاف: إزالة الشعر من الوجه." انتهى.
وعليه؛ فهذا الإسناد لا يثبت. وعلى فرض ثبوته، فالحفاف هو أخذ الشعر بالموسى، والممنوع هو النتف.
قال في "لسان العرب" (9/ 50): "والمرأَة تَحُفُّ وَجْهها حَفّاً، وحِفافاً: تُزِيلُ عَنْهُ الشعر بالمُوسَى، وتَقْشِرُهُ [تَقْشُرُهُ]، مُشْتَقٌّ مِنْ ذَلِكَ." انتهى.
وفي "معجم لغة الفقهاء"، ص182: " حفت المرأة وجهها: حلقت شعره بالموسى." انتهى.
ولهذا قال البعلي الحنبلي في المطلع على ألفاظ المقنع، 423 "الحفاف "بكسر الحاء": مصدر حفت المرأة وجهها من الشعر، تحفه، حفًّا وحفافًا، واحتفت: مثله، والمحرم عليها إنما هو نتف شعر وجهها، فأما حفه، وحلقه، فمباح، نص عليه أصحابنا" انتهى.
الرابع: أن جعل التحريم مقصورا على ما كان فيه تدليس أو غش، تخصيص للنص بالعلة المستنبطة، وفيه خلاف بين الأصوليين، وهو ممنوع في أحد قولي الشافعية والحنابلة.
وينظر: "التحبير" للمرداوي (7/ 3266)، "البحر المحيط" (4/ 500).
ولهذا فالصواب: تحريم النمص، ولو أذن الزوج، بل إن أمر به، فإنه لا يطاع.
جاء في "فتاوى اللجنة الدائمة" (17/133): "لا تجوز إزالة شعر الحاجب، لأن هذا هو النمص الذي لعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعله، وهو من تغيير خلق الله الذي هو من عمل الشيطان، ولو أمرها به زوجها فإنها لا تطيعه؛ لأنه معصية، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإنما الطاعة في المعروف، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم". انتهى.
والله أعلم.
تعليق