الحمد لله.
أولا:
حكم دفع مال لإخراج أحد المشاركين في المزاد
أجاز جماعة من فقهاء المالكية دفع مال لإخراج أحد المشاركين في المزاد؛ لأن كفّه عن المشاركة: فعل منه، وهذا على المشهور عند المالكية من أن الكف فعل.
قال في مراقي السعود:
فكفنا بالنهي مطلوب النبي ... والكف فعل في صحيح المذهب
وقد استُدل لصحة هذا المذهب بأدلة.
قال الأمين الشنقيطي رحمه الله: "واعلم أن السبكي قال: إنه استنبط من هذه الآية الكريمة من سورة الفرقان مسألة أصولية، وهي أن الكف عن الفعل فعل. والمراد بالكف الترك، قال في طبقاته: "لقد وقفت على ثلاثة أدلة تدل على أن الكف فعل لم أر أحدا عثر عليها.
أحدها: قوله تعالى: (وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا)، فإن الأخذ: التناول، والمهجور: المتروك، فصار المعنى تناولوه متروكا، أي: فعلوا تركه، انتهى محل الغرض منه بواسطة نقل صاحب نشر البنود، شرح مراقي السعود ، في الكلام على قوله:
فكفنا بالنهي مطلوب النبي
ثم قال الشنقيطي : استنباط السبكي من هذه الآية أن الكف فعل وتفسيره لها بما يدل على ذلك، لم يظهر لي كل الظهور، ولكن هذا المعنى الذي زعم أن هذه الآية الكريمة دلت عليه، وهو كون الكف فعلا: دلت عليه آيتان كريمتان من سورة المائدة دلالة واضحة لا لبس فيها، ولا نزاع.
فعلى تقدير صحة ما فهمه السبكي من آية الفرقان هذه، فإنه قد بينته بإيضاح الآيتان المذكورتان من سورة المائدة .
أما الأولى منهما، فهي قوله تعالى: (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون) المائدة/ 63، فترك الربانيين والأحبار نهيهم عن قول الإثم وأكل السحت ، سماه الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة صنعا في قوله: (لبئس ما كانوا يصنعون)، أي: وهو تركهم النهي المذكور، والصنع أخص من مطلق الفعل، فصراحة دلالة هذه الآية الكريمة على أن الترك فعل في غاية الوضوح كما ترى.
وأما الآية الثانية، فهي قوله تعالى: (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) المائدة/ 79، فقد سمى جل وعلا في هذه الآية الكريمة تركهم التناهي عن المنكر فعلا، وأنشأ له الذم بلفظة بئس، التي هي فعل جامد لإنشاء الذم في قوله: (لبئس ما كانوا يفعلون)، أي: وهو تركهم التناهي، عن كل منكر فعلوه، وصراحة دلالة هذه الآية أيضا على ما ذكر واضحة، كما ترى.
وقد دلت أحاديث نبوية على ذلك ; كقوله - صلى الله عليه وسلم -: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، فقد سمى - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث ترك أذى المسلمين إسلاما. ومما يدل من كلام العرب على أن الترك فعل: قول بعض الصحابة في وقت بنائه - صلى الله عليه وسلم - لمسجده بالمدينة:
لئن قعدنا والنبي يعمل ... لذاك منا العمل المضلل
فسمى قعودهم عن العمل، وتركهم له عملا مضللا" انتهى من "أضواء البيان" (6/ 48).
ثانيا:
كلام أهل العلم في جواز دفع المال لإخراج أحد من المزاد
مما جاء في جواز بذل المال لإخراج أحد المزايدين:
قال خليل بن إسحق في مختصره: "وجاز سؤال البعض ليكف عن الزيادة لا الجميع".
قال الخرشي في شرحه (5/ 83): "أي: جاز لحاضر سوم سلعة يريد شراءها، سؤال البعض من الحاضرين للسوم، ليكف عن الزيادة فيها ليشتريها السائل برخص، وليس له سؤال الجميع، أو الأكثر، والواحد الذي كالجماعة، من كونه مقتدى به : كالجميع" انتهى.
وقال العدوي في حاشيته عليه: "(قوله: وجاز كف عني) هذا إذا كان السؤال بغير عوض، أو بعوض من غير السلعة المبيعة، كما لو قال كف عني ولك دينار، ويلزمه الدينار، اشتراها أو لا. ويجري مثل ذلك فيمن أراد أن يتزوج امرأة، أو يسعى في رزقة، أو وظيفة" انتهى.
وقال عليش: "استشكل ابن هلال قول ابن رشد بأنه من أكل أموال الناس بالباطل، ولا سيما إذا لم يبعها ربها. وقال العبدوسي: لا إشكال فيه لأنه عوض على ترك، وقد ترك" انتهى من "منح الجليل" (5/ 61).
ووجه منع سؤال الجميع: ما فيه من الإضرار بالبائع.
ومثله لو طلب من الجميع ألا يزيدوا على سعر معين، فهذا تواطؤ محرم؛ لما فيه من الإضرار بالبائع.
قال في "التاج والإكليل" (6/ 250): "(وجاز سؤال البعض ليكف عن الزيادة) سمع القرينان: أرجو أن لا بأس فيمن حضر جارية بالسوق، ويقول لرجل كف عني فيها، لي بها حاجة ولا أحب الأمر العام، ولو تواطأ الناس بهذا فسدت البيوع.
ابن رشد: فلو قال لواحد: كف عني ولك دينار: جاز، ولزمه الدينار ولو لم يشتر، ويجوز أيضا أن يقول: وتكون شريكي فيها. بخلاف ما لو قال: ولك نصفها؛ لأنه أعطى ما لا يملك.
(لا الجميع) سمع القرينان: القوم يجتمعون في البيع، يقولون : لا تزيدوا على كذا وكذا ، فقال: لا والله ما هذا بحسن.
ابن رشد: هذا لأن تواطؤهم على ذلك إفساد على البائع، وإضرار به" انتهى.
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ما نصه : " مجموعة من الناس حضروا أحد المزادات وكانوا متفقين قبل الحضور إلى المزاد أن لا يزيدوا في السعر على بعضهم وبدأ المزاد ، وقام زميل لهم ودخل المزاد، وبدأ في رفع السعر، فكلموه وقالوا له أنت شريك لنا والزم الصمت، ثم بعد انتهاء المزاد قاموا ببيع ما اشتروه ثم قسموا المبلغ فيما بينهم، فما حكم ذلك ؟
فأجاب: "إذا لم يكن في السوق سواهم : فإن ذلك لا يجوز، أما إذا كان في السوق غيرهم، فلا بأس أن يتفقوا، على شرط أن لا يمنعوا أحدا من دخول المزاد .
أما أن يمنعوا أحدا من دخول المزاد، ويقولون له أنت شريك في الربح فلا يجوز .
سؤال : وإذا أعطوه ، هل يجب أن يتخلص من المبلغ ؟
جواب : إذا أعطوه فهم آثمون .
سؤال : ماذا يفعل بالمبلغ ؟
جواب : عليه أن يرده ، أو أن يتصدق به . والله أعلم " انتهى من جواب السؤال رقم: (5224).
ثالثا:
حجة المانعين من إخراج أحد من المزاد
من أهل العلم من منع إخراج أحد من المزاد ، لما فيه من الضرر على البائع؛ لأن هذا المخرَج قد يزيد في الثمن، ويستمر في الزيادة، وهذا نفع للبائع.
ثم إذا أخرجوا من تظن فيه المنافسة، فقد يحصل بينهم تواطؤ على عدم الزيادة عن حد معين، وهذا ممنوع كما تقدم.
سئل الأستاذ الدكتور صالح بن محمد السلطان، أستاذ الفقه بجامعة القصيم ما نصه : " سؤالان يرتبطان ببعضهما:
الأول: ما حكم البيع عن طريق المزاد، وهو أن يعرض الشيء المباع ويتزايد الناس في السعر إلى أن يصلوا لسعر لا يمكن لأحد أن يزيد عليه، فيأخذ صاحب أعلى سعر الشيء المباع، وفى هذه الطريقة قد تتزايد أسعار الأشياء لمجرد التنافس والاحتكار، فما صحة هذا البيع شرعًا؟
الثاني: وبفرض صحة هذا البيع عن طريق المزاد، فبعض الناس يعطي للراغبين في دخول المزاد مبالغ مالية حتى لا يدخلوا، فلا يتزايد عليه السعر، ويسمى هذا (تعريق)، فما الموقف الشرعي هنا من الآخذ والعاطي، وهل يجوز أخذ هذه المبالغ وعدم الدخول؟ أرجو الإفادة منكم، وشكرًا.
فأجاب :
أما السؤال الأول ، فجوابه: أنه لا حرج من هذا التزايد إلا أن يزيد في السلعة وهو لا يريد الشراء، فهذا هو النَّجَشُ المنهي عنه- صحيح البخاري (2142)، وصحيح مسلم (1516).
ومثله : إن كان يريد احتكار السلعة على الناس والتضييق عليهم فيها، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم، عن الاحتكار- صحيح مسلم (1605).
وأما السؤال الثاني : فجوابه: أن هذا العمل لا يجوز؛ لما فيه من الإضرار بصاحب السلعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ". أخرجه أحمد (2865) وابن ماجه (2341). وما يأخذه من هذا العمل فهو سحت وكسب خبيث. والله أعلم " انتهى من "موقع الإسلام اليوم".
والمنع يفهم من آخر جواب الشيخ ابن عثيمين رحمه الله السابق.
وقد بحث الدكتور عبد الكريم السماعيل مسألة "المعاوضة في الالتزام بترك المنافسة التجارية"، وقال: "الالتزام بترك المنافسة هو التزام بالامتناع عن عمل، وهذا الالتزام يعرف عند القانونيين بالالتزام السلبي، وكون الامتناع عن الفعل موضوعاً للتعاقد، قد اختلفت فيه أنظار الفقهاء، ولهم في ذلك اتجاهان".
وذكر المنع، وأن أبرز من يمثل هذا الاتجاه هم الحنفية، كما قال الشيخ مصطفى الزرقا - رحمه الله-: " لم يرد في الاجتهاد الحنفي ما يسوغ أن يكون الامتناع موضوعاً مباشراً للالتزامات العقدية، كتعاقد اثنين على أن لا يفتح أحدهما محلاً تجارياً في جانب محل الآخر لبيع مثل بضاعته، أو كاتفاق أرباب نوع من المعامل مع أحدهم أن يغلق معمله كي ينحصر الإنتاج، بهم لقاء عوض شهري يدفعونه إليه، كما يجري اليوم بين أرباب المطاحن، ونحو ذلك من الموضوعات السلبية في التعاقد ".
وذكر اتجاه الجواز، وهو ما جاء في كلام المالكية.
ثم قال: " ويستدل لهذا الاتجاه بما يأتي: بأن الالتزام بالامتناع عن العمل قد يكون فيه منفعة مقصودة، كما في الالتزام بترك المنافسة؛ إذ الالتزام في هذه الصورة له قيمة مالية تصح المعاوضة عليها.
الترجيح:
الراجح : هو القول الثاني ، وهو أن الامتناع عن الفعل تصح المعاوضة عليه، إذا كانت له قيمة مالية، كالالتزام بترك المنافسة التجارية، لقوة دليل هذا القول، ولأن الأصل جواز المعاوضة على ما فيه نفع مشروع، له قيمة مالية لدى التجار، والله أعلم" انتهى من "ندوة المعاوضة على الحقوق".
والحاصل :
أن هذه المسألة مختلف فيها، والقول بالجواز مقيّد بأن يكون الإخراج لواحد غير مقتدىً به، وليس إخراجا لجميع الراغبين في الشراء، وألا يتواطأ البقية على عدم الزيادة عن سعر معين؛ لما فيه من ظلم البائع والإضرار به.
والله أعلم.
تعليق