الحمد لله.
روى مسلم (1442) عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ جُدَامَةَ بِنْتِ وَهْبٍ، أُخْتِ عُكَّاشَةَ، قَالَتْ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي أُنَاسٍ وَهُوَ يَقُولُ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الْغِيلَةِ، فَنَظَرْتُ فِي الرُّومِ وَفَارِسَ، فَإِذَا هُمْ يُغِيلُونَ أَوْلَادَهُمْ، فَلَا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ ذَلِكَ شَيْئًا .
والغيلة لها معنيان: أن يجامع الرجل امرأته وهي مرضع، أو أن تُرضع المرأة وهي حامل.
وسبب هم النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الغيلة، هو الخوف على الرضيع أو الحمل.
وهذا الحديث دليل على جواز الاجتهاد من نبينا صلى الله عليه وسلم فيما لم يرد فيه وحي إليه، فيجتهد كما يجتهد غيره من المجتهدين وهو سيدهم وإمامهم وأعلمهم وأفقههم، لكنه معصوم، فلو أخطأ لم يُقر على خطئه.
فإذا كان مبلغا لما أوحى الله إليه: فالعصمة حاصلة ابتداء، وإذا كان مجتهدا في حكمه صلى الله عليه وسلم: فالعصمة حاصلة انتهاء.
قال النووي رحمه الله في "شرح مسلم" (10/ 16): " واختلف العلماء في المراد بالغيلة في هذا الحديث ، وهي الغِيل. فقال مالك في الموطأ والأصمعي وغيره من أهل اللغة: أن يجامع امرأته وهي مرضع، يقال منه أغال الرجل، وأَغْيَل، إذا فعل ذلك. وقال ابن السكيت: هو أن ترضع المرأة وهي حامل، يقال منه غالت وأغيلت.
قال العلماء: سبب همه صلى الله عليه وسلم بالنهي عنها أنه يخاف منه ضرر الولد الرضيع. قالوا: والأطباء يقولون: إن ذلك اللبن داء، والعرب تكرهه وتتقيه.
وفي الحديث: جواز الغيلة، فإنه صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها، وبين سبب ترك النهي.
وفيه: جواز الاجتهاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه قال جمهور أهل الأصول، وقيل لا يجوز لتمكنه من الوحي، والصواب الأول" انتهى.
وقال الإمام أبو الوليد الباجي رحمه الله: " وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لقد هممت أن أنهى عن الغيلة ) : يدل على أنه قد كان يقضي ويأمر وينهى بما يؤديه إليه اجتهاده ، دون أن ينزل عليه شيء، ولذلك همَّ أن ينهى عن الغيلة ، لما خاف من فساد أجساد أمته وضعف قوتهم من أجلها ، حتى ذكر أن فارس والروم تفعل ذلك فلا يضر أولادهم ذلك .
يحتمل أن يريد - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يريد أن يضر ضررا عاما، وإنما يضر في النادر ؛ فلذلك لم ينه عنه ، ولم يحرمه ، رفقا بالناس ، لما في ذلك من المشقة على من له زوجة واحدة ، فيمتنع من وطئها مدة ، فتلحقه بذلك المشقة ، وهذه مشقة عامة ، فكانت مراعاتها أرفق بأمته من المشقة الخاصة التي لا تلحق إلا اليسير من الأطفال . والله أعلم .
قال ابن حبيب العرب تتقي وطء المرضع أن يعود من ذلك ضرر على الولد صريح في جسم أو علة." انتهى من "المنتقى شرح الموطأ" (4/156).
وقد دل على جواز الاجتهاد وحصوله منه صلى الله عليه وسلم أدلة كثيرة، كما سبق بيانه في جواب السؤال رقم : (135586) .
ولا شبهة في ذلك ، ولا إشكال بحمد الله، فالغالب والأكثر أن تصدر الأحكام منه صلى الله عليه وسلم بناء على الوحي، وفي القليل النادر يجتهد صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور، وينسبها لنفسه، ويعلم أصحابه أن ذلك اجتهاده ، ولهذا تراهم يراجعونه فيه كما في أسارى بدر، ثم يحصل إقرار الوحي له أو مراجعته فيه، وقد يجتهد في الهم بشيء ثم يدعه كما في هذا الحديث.
والله أعلم.
تعليق