الحمد لله.
يشترط للدعاء الإخلاص لله فيه.
قال الله تعالى: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) الأعراف/29.
وقال الله تعالى: (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) غافر/14.
وحقيقة الإخلاص هي التصفية وتخليص الشيء من الشوائب.
قال ابن فارس رحمه الله تعالى:
" (خلص) الخاء واللام والصاد أصل واحد مطرد، وهو تنقية الشيء وتهذيبه. يقولون: خلصته من كذا " انتهى من "معجم مقاييس اللغة" (2/208).
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام:
" الإخلاص أن يفعل المكلف الطاعة خالصا لله وحده ، لا يريد بها تعظيما من الناس ولا توقيرا، ولا جلب نفع ديني، ولا دفع ضرر دنيوي " انتهى من "قواعد الأحكام" (1/146).
فالإخلاص في الدعاء أن ينقي الداعي تضرعه لله تعالى فلا يبتغي إلا رضا الله تعالى ورحمته؛ لاعتقاده الكامل أن النفع والضر بيده سبحانه وحده، وأنه المستحق للتضرع له سبحانه.
لكن من الناس من يناقض هذا الإخلاص إما بسبب الجهل بحقيقة الإخلاص وتوحيد الله تعالى، أو بسبب شهوة النفس من حبها للعلو بين الخلق وتعلقها بمتاع الدنيا الزائل.
فأما بسبب الجهل: فله صورتان مشهورتان:
الصورة الأولى: يتلبس بها جملة من المنتسبين للإسلام، حيث لا يخلصون في توجههم لله تعالى، بل يتخذون وسائط بينهم وبين الله تعالى يطلبون رضاها لتشفع لهم عند الله تعالى، كما يفعل عباد القبور فبعضهم يتوسل ويستغيث بالحسين رضي الله عنه وبعضهم بالشيخ عبد القادر الجيلاني وغيره من الصالحين، فهؤلا لم يخصلوا في دعائهم، بل شابهوا شرك أهل الجاهلية، الذي ذكره الله عنهم؛ حيث قال سبحانه:
( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ) الزمر/2 – 3.
وراجع للفائدة الجواب رقم: (316791).
الصورة الثانية: قد يدعو المسلم، لكن بقلب غافل عن عظمة الله تعالى وأن النفع والضر بيده، بل يتجه قلبه إلى الأسباب ، فقد يدعو المريض مثلا وقلبه متعلق بالطبيب أو الراقي، فهذا التصرف فيه قدح في التوحيد والإخلاص، وطالع للفائدة الجواب رقم: (118262).
وأما ناقض الإخلاص بسبب شهوة النفس:
فهو الرياء وحبّ مدح الناس.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
" ( وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ )؛ أي: قاصدين بذلك وجهه وحده لا شريك له.
والدعاء يشمل دعاء المسألة، ودعاء العبادة، أي: لا تراؤا ولا تقصدوا من الأغراض في دعائكم سوى عبودية الله ورضاه " انتهى من "تفسير السعدي" (ص 286).
وقد سمى الرسول صلى الله عليه وسلم الرياء شركا .
عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ.
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ؟
قَالَ: الرِّيَاءُ، إِنَّ اللهَ يَقُولُ يَوْمَ تُجَازَى الْعِبَادُ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاؤُونَ بِأَعْمَالِكُمْ فِي الدُّنْيَا، فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً ) رواه الإمام أحمد في "المسند" (39 / 43)، وحسن إسناده محققو المسند، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (1 / 120).
وعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: ( كُنَّا نَعُدُّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الرِّيَاءَ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ ) رواه الحاكم في "المستدرك" (4 / 329) وقال : "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ"، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (1 / 121).
والرياء بالدعاء قد يقع على صور منها الجهر به أمام الناس، وإظهار الخشوع فيه بالتباكي ونحوه، أو بتحسين الألفاظ بالسجع وغريب الكلام.
ولهذا كانت السنة في الدعاء الإخفاء لا الجهر به.
قال الله تعالى : ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) الأعراف/55 .
قال الطبري رحمه الله تعالى :
" ( تَضَرُّعًا ) يقول: تذللا واستكانة لطاعته. ( وَخُفْيَةً ) يقول: بخشوع قلوبكم، وصحة اليقين منكم بوحدانيته فيما بينكم وبينه، لا جهارا مراءاة " انتهى من "تفسير الطبري" (10 / 247).
وقال ابن المنير رحمه الله تعالى:
" وحسبك في تعين الإسرار في الدعاء اقترانه بالتضرع في الآية. فالإخلال به كالإخلال بالضراعة إلى الله في الدعاء، وإن دعاء لا تضرع فيه، ولا خشوع: لقليل الجدوى.
فكذلك دعاء لا خفيةَ ولا وقارَ يصحبه " انتهى من "الانتصاف - مع الكشاف" (2 / 450).
وقد مدح الله تعالى عبده زكريا؛ حيث قال تعالى:
( ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ) مريم/2 – 3.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الإخلاص في عبادته.
والله أعلم.
تعليق