الحمد لله.
عبارة "أسند" يطلق في كتب علوم الحديث ويقصد بها عدة معاني:
المعنى الأول:
يقولون: " أَسْند عن فلان وفلان "، ويقصدون بها معنى "روى" و" أخذ عن"، ويكثر من هذه العبارة ابن الجوزي في كتابه "صفة الصفوة".
فما يقول فيه ابن الجوزي: " أسند عن ". يعبّر عنه غيره بقولهم: روى عن. أو أخذ عن.
فمثلا: قول ابن الجوزي رحمه الله تعالى عنه:
" أسند وهب بن منبه عن: جابر بن عبد الله، والنعمان بن بشير، وابن عباس، وخلق كثير يطول شرحهم.
وقد روى عن: معاذ بن جبل، وأبي هريرة في اخرين … " انتهى من "صفة الصفوة" (2 / 295 - 296).
عبّر عن هذا الذهبي بقوله رحمه الله تعالى:
" وأخذ عن: ابن عباس، وأبي هريرة - إن صح - وأبي سعيد، والنعمان بن بشير، وجابر، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص - على خلاف فيه – وطاووس... " انتهى من "سير أعلام النبلاء" (4 / 545).
وعبّر عنه المزي بقوله رحمه الله تعالى:
" وهْب بن منبه... أخو: هَمَّام بْن منبه، ومعقل بن منبه، وغيلان بن منبه.
روى عن: أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وطاووس ابن كيسان، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عَمْرو بن العاص على خلاف فيه ... والنعمان بن بشير... وأبي سعيد الخدريّ، وأبي هريرة " انتهى من "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" (31/140).
المعنى الثاني:
تأتي عبارة: ( أسند) كثيرا بمعنى ذِكْر المصنف أو الراوي إسناده لحديث ما أو إلى راو معيّن.
ومن ذلك ما رواه الترمذي في "السنن – العلل" (6 / 249)، قال:
حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ أَبِي السَّفَرِ الْكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشِ، قَالَ: قُلْتُ لِإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: أَسْنِدْ لِي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: ( إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَجُلٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ فَهُوَ الَّذِي سَمَّيْتُ، وَإِذَا قُلْتُ: قَالَ عَبْدُ اللهِ - فَهُوَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ ).
ويكثر في كتب أهل العلم مثل قولهم: أسند البخاري عن ابن عمر مثلا، أو أسند الترمذي حديث عائشة، ونحو هذا.
فأسند هنا بمعى روى، لكنها أخص.
فأسند تستعمل لمن روى حديثا بإسناده.
المعنى الثالث:
ترد عبارة: " أسند " بمعنى روى الحديث مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أي ليس موقوفا من كلام الصحابي أو التابعي، ويكثر هذا في كلام أئمة الحديث ونقّاده.
مثال ذلك ما رواه أبو داود في "السنن" (1056)، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ فَارِسٍ، حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ يَعْنِي الطَّائِفِيَّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ نُبَيْهٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هَارُونَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( الْجُمُعَةُ عَلَى كُلِّ مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ ).
ثمّ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: " رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ جَمَاعَةٌ، عَنْ سُفْيَانَ، مَقْصُورًا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَلَمْ يَرْفَعُوهُ، وَإِنَّمَا أَسْنَدَهُ قَبِيصَةُ " انتهى.
ومثل قول ابن أبي حاتم رحمه الله تعالى:
" وسألت أبي عن حديث رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ حُمَيد، عَنْ أَنَسٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: ( غَدْوَةٌ فِي سَبيلِ اللهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيها، وَلَوْ أنَّ امرَأةً مِنْ نِساءِ أهلِ الجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إلَى الأَرضِ، لأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا … ) الحديثَ؟
قال أبي: حدّثنا الأنصاريّ، عن حُمَيد، عن أنس، موقوف.
قال أبي: حديث حُمَيد فيه مثل ذا كثير؛ واحد عنه يسند، وآخر يوقف " انتهى. "العلل" لابن أبي حاتم (3/ 357 — 358).
وقد يراد بأسند أنّ الراوي وصل الإسناد إلى آخره ولم يرسله.
مثل ما رواه أبو داود (4513)، قال: حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ: ( أَنَّ أُمَّ مُبَشِّرٍ، قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: مَا يُتَّهَمُ بِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَإِنِّي لَا أَتَّهِمُ بِابْنِي شَيْئًا إِلَّا الشَّاةَ الْمَسْمُومَةَ الَّتِي أَكَلَ مَعَكَ بِخَيْبَرَ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
(وَأَنَا لَا أَتَّهِمُ بِنَفْسِي إِلَّا ذَلِكَ، فَهَذَا أَوَانُ قَطَعَتْ أَبْهَرِي).
ثمّ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: " وَرُبَّمَا حَدَّثَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، بِهَذَا الْحَدِيثِ مُرْسَلًا عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَرُبَّمَا حَدَّثَ بِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَّ مَعْمَرًا كَانَ يُحَدِّثُهُمْ بِالْحَدِيثِ مَرَّةً مُرْسَلًا فَيَكْتُبُونَهُ، وَيُحَدِّثُهُمْ مَرَّةً بِهِ فَيُسْنِدُهُ فَيَكْتُبُونَهُ، وَكُلٌّ صَحِيحٌ عِنْدَنَا، قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: فَلَمَّا قَدِمَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَلَى مَعْمَرٍ أَسْنَدَ لَهُ مَعْمَرٌ أَحَادِيثَ كَانَ يُوقِفُهَا " انتهى.
ومثل ما رواه الترمذي (841)، قال: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ، عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: " تَزَوَّجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ، وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ، وَكُنْتُ أَنَا الرَّسُولَ فِيمَا بَيْنَهُمَا".
ثم قال الترمذي:
" هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَسْنَدَهُ غَيْرَ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ، عَنْ رَبِيعَةَ.
وَرَوَى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ رَبِيعَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ: " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ". رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا.
وَرَوَاهُ أَيْضًا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنْ رَبِيعَةَ مُرْسَلًا " انتهى.
وقال ابن سعد رحمه الله تعالى:
" قالوا: وكان الحسن جامعا عالما عاليا رفيعا ثقة مأمونا عابدا ناسكا كبير العلم فصيحا جميلا وسيما.
وكان ما أسند من حديثه، وروى عمن سمع منه: فحسن حجة.
وما أرسل من الحديث: فليس بحجة " انتهى من "الطبقات الكبرى" (7/157).
الخلاصة:
عبارة: " أسند " تأتي بمعنى روى بلا فرق.
وقد تستعمل بمعنى أخص من روى، فتأتي بمعى أنّ المصنف أو الراوي ساق إسناده كاملا، ومن ذلك أنه ساق الخبر مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يوقفه على الصحابي أو التابعي، أو رواه موصولا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرسله.
والله أعلم.
تعليق