الثلاثاء 23 جمادى الآخرة 1446 - 24 ديسمبر 2024
العربية

لماذا تسوء أخلاق بعض المسلمين؟

328782

تاريخ النشر : 03-12-2020

المشاهدات : 7108

السؤال

كيف لرجل مؤمن ومؤدي للصلاة أن يكون غليظ القلب، ونفسه لا تحثه على الخير؟ وعلى الجانب الآخر نجد أشخاصا نصارى بلغو من الإنسانية والرحمة حدا كبيرا. فما الدافع لطيب النفس والقلب؟ أمى هى من عند الله، والخبيث سيبقى خبيث النفس. والسؤال الآخر: كيف لعمر بن الخطاب بعد ما كان غليظا وخبيث النفس والقلب أن يتحول بسبب الشهادة والإسلام إلى حاكم عادل رحيم تفيض عيناه من خشيه الله؟ هذه الأسئلة تمثل جزءً كبيرا من حيرتى، وما الذى يكون شخصية الإنسان الرحيم والغليظ والطيب والخبيث؟

الجواب

الحمد لله.

أولاً :

من أصول دين الإسلام؛ أن كل شيء بقدر، ولا يستثنى من هذا شيء.

قال الله تعالى:  إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ   القمر/49.

قال ابن كثير رحمه الله تعالى:

" وقوله: ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ )، كقوله: ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا )، وكقوله: ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى )، أي: قَدَّرَ قَدَرًا، وهدى الخلائق إليه؛ ولهذا يستدلّ بهذه الآية الكريمة أئمة السّنّة على إثبات قدر اللّه السّابق لخلقه، وهو علمه الأشياء قبل كونها وكتابته لها قبل برئها " انتهى من "تفسير ابن كثير" (7 / 482).

ومن ضمن هذا : الأخلاق الحسنة، فالله تعالى يهدي من يشاء إلى أحسنها، ويصرف من يشاء عنها، ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم :  وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ ...   رواه مسلم (771).

والأخلاق الحسنة قد هبة من الله تعالى للعبد ، بلا عمل من العبد ، وقد تكون نتيجة مجاهدة من العبد لنفسه حتى يتخلق بالأخلاق الحسنة فيوفقه الله تعالى لها .

روى مسلم (24) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأحد أصحابه ، جاء مع وفد عبد القيس :  إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ : الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ   زاد أبو داود (4548) قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَنَا أَتَخَلَّقُ بِهِمَا أَمْ اللَّهُ جَبَلَنِي عَلَيْهِمَا ؟ قَالَ :  بَلْ اللَّهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِمَا  ،قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ" .

قال ابن القيم في "مدارج السالكين" (2/315) :

"فإن قلت : هل يمكن أن يقع الخلق كسبيا أو هو أمر خارج عن الكسب ؟

قلت : يمكن أن يقع كسبيا بالتخلق والتكلف، حتى يصير له سجية وملكة، وقد قال النبي لأشج عبد القيس رضي الله عنه : (إن فيك لخلقين يحبهما الله : الحلم والأناة . فقال : أخلقين تخلقت بهما أم جبلني الله عليهما؟) فقال : بل جبلك الله عليهما . فقال : الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله) . 

 فدل على أن من الخلق : ما هو طبيعة وجبلة ، وما هو مكتسب" انتهى .

وكما أن الله قدّر هذه الأخلاق، فإنه قدّر أسبابها؛ كما نراه في الواقع المعاش، فالله سبحانه وتعالى قدر للأسرة والمجتمع، وللشخص نفسه، دورًا في تشكّل أخلاقه، كما أن الإنسان يولد على الفطرة السليمة، ثم للمجتمع دور في الحفاظ عليها، أو في إفسادها.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:   كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ  رواه البخاري (1385)، ومسلم (2658).

فجعل النبي صلى الله عليه وسلم للأبوين دورا في تغيير فطرة ولدهما .

لكن هذا لا يعني أن سيئ الخلق لا يتحمّل مسؤولية سوء خلقه، بل هو مأمور بالسعي في إصلاح نفسه، وعدم التقصير في اتخاذ الأسباب، ومن ذلك الحفاظ على إقامة الصلاة بخشوعها وكمالها.

قال الله تعالى:   اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ   العنكبوت/45.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: " جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّ فُلَانًا يُصَلِّي بِاللَّيْلِ، فَإِذَا أَصْبَحَ سَرَقَ، قَالَ: إِنَّهُ سَيَنْهَاهُ مَا تَقُولُ " رواه الإمام أحمد في "المسند" (15 / 483)، وصحح إسناده محققو المسند.

لكن مجرد فعل الصلاة لا يلزم منه حسن الإخلاق إلا إذا أديت على وجهها الكامل ، ومن ذلك: كمال الخشوع فيها، فهذا هو الذي يتبعه الفلاح في الدنيا والآخرة.

قال الله تعالى:  قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ   المؤمنون/1 – 2.

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:

" وهي ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ).

والفحشاء: كل ما استعظم واستفحش من المعاصي التي تشتهيها النفوس.

والمنكر: كل معصية تنكرها العقول والفطر.

ووجه كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، أن العبد المقيم لها، المتمم لأركانها وشروطها وخشوعها، يستنير قلبه، ويتطهر فؤاده، ويزداد إيمانه، وتقوى رغبته في الخير، وتقل أو تعدم رغبته في الشر، فبالضرورة، مداومتها، والمحافظة عليها على هذا الوجه، تنهى عن الفحشاء والمنكر، فهذا من أعظم مقاصدها وثمراتها... " انتهى من "تفسير السعدي" (ص 632).

فإذا وجد عبدٌ يصلي لكنه غليظ القلب سيء الخلق ، مداوم على فعل السيئات ، فهذا يعني أن صلاته ليست كاملة ، وأنه لا يؤديها على الصورة التي أرادها الله تعالى .

ولكنه على كل حالٍ فيه خير ، وهو محافظته على الصلاة ، وهو خير على كل حالٍ ممن لا يصلي .

ثانيا:

انقلاب نفس الإنسان وخصالها بعد الإسلام إلى أحسن صورة، هذا واقع؛ وبيانه من وجوه:

الوجه الأول: أن الله تعالى لا يظلم الناس شيئا، فمن أحب الخير بعد معرفته له وأراده وحرص عليه فإن الله يهديه إليه.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى:

" كما قال تعالى: ( وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ).

وقال: ( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ).

فتخلف الاهتداء يكون لعدم قبول المحل تارة، ولعدم آلة الهدى تارة، ولعدم فعل الفاعل وهو الهادي تارة، ولا يحصل الهدى على الحقيقة إلا عند اجتماع هذه الأمور الثلاثة.

وقد قال سبحانه: ( وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ )، فأخبر سبحانه أنه قطع عنهم مادة الاهتداء، وهو إسماع قلوبهم وإفهامها ما ينفعها، لعدم قبول المحل، فإنه لا خير فيه، فإن الرجل إنما ينقاد للحق بالخير الذي فيه، والميل إليه، والطلب له، ومحبته، والحرص عليه، والفرح بالظفر به... " انتهى من "إغاثة اللهفان" (2 / 911).

الوجه الثاني: أن الله تعالى فطر خلقه على أن أفعالهم وتصرفاتهم تبع لتصوراتهم واعتقاداتهم، فمن صح اعتقاده وقوي بأمر، فإنه يتصرف بمقتضاه، كما أن الخلق لما تيقنوا أن النار محرقة تجنبوها، فكذلك من تيقن أن الله تعالى يراه ويحصي عليه عمله ليحاسبه عليه يوم القيامة، فسيتصرف على حسب قوة هذا الإيمان، وإنما تقع المعصية بسبب ضعف في الإيمان وضرب من الجهل.

قال الله تعالى:  إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا   النساء/17.

وقال الله تعالى:  ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ   النحل/119.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" من عمل بخلاف الحق فهو جاهل، وإن علم أنه مخالف للحق، كما قال سبحانه: ( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ )، قال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: كل من عمل سوءا فهو جاهل.

وسبب ذلك أن العلم الحقيقي الراسخ في القلب يمتنع أن يصدر معه ما يخالفه من قول، أو فعل، فمتى صدر خلافه فلا بد من غفلة القلب عنه، أو ضعفه في القلب بمقاومة ما يعارضه، وتلك أحوال تناقض حقيقة العلم فيصير جهلا بهذا الاعتبار " انتهى من "اقتضاء الصراط المستقيم" (1 / 257).

والمتقرر من سيرة الفاروق عمر رضي الله عنه أنه قد بلغ مبلغا عظيما في الإيمان، فلذا تبعه ما عرف به من الخشية والتقوى.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب