الحمد لله.
الذي نص عليه القرآن أن الله تعالى نجّى من الطوفان نوحا ومن آمن معه، وأغرق الباقين.
قال الله تعالى: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ، وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ، وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ، وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ، سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ الصافات/76 - 82.
كما نص الوحي أن البشر بعد الطوفان لم يبق منهم إلا ذرية نوح عليه السلام.
قال محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" قوله تعالى: ( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ).
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة من حملهم مع نوح، تنبيها على النعمة التي نجاهم بها من الغرق، ليكون في ذلك تهييج لذرياتهم على طاعة الله ؛ أي: يا ذرية من حملنا مع نوح فنجيناهم من الغرق؛ تشبهوا بأبيكم، فاشكروا نعمنا.
وأشار إلى هذا المعنى في قوله: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ) الآية.
وبين في مواضع أخر الذين حملهم مع نوح من هم، وبين الشيء الذي حملهم فيه، وبين من بقي له نسل، وعقب منهم، ومن انقطع ولم يبق له نسل ولا عقب.
فبين أن الذين حملهم مع نوح: هم أهله ومن آمن معه من قومه في قوله: ( قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ).
وبين أن الذين آمنوا من قومه قليل ، بقوله: ( وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ )...
وبين أن ذرية من حمل مع نوح لم يبق منها إلا ذرية نوح في قوله: ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) " انتهى من "أضواء البيان" (3 / 482).
وهل هذا حدث لأن الأرض يومئذ لم يكن بها إلا قوم نوح وقد أهلكوا؟ أم إنه كان هناك أقوام آخرون غير قوم نوح ، وأهلكوا أيضا؟
الذي نص عليه القرآن أن الله تعالى لم يرسل نوحا إلا إلى قومه.
قال الله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ نوح /1.
والذي نص عليه القرآن أيضا أن العذاب لحق قوم نوح، ولم يشر إلى أنه مس غيرهم، كقوله تعالى: وَيَاقَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ هود/89.
ولا يعلم نص صحيح يبين مدى انتشار البشر يومئذ، ومن ذهب إلى أنه كان هناك أقوام آخرون غير قوم نوح، فلا يعلم له دليل صحيح؛ إلا حديثا محتمل المعنى، وهو حديث جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي المَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً رواه البخاري (335)، ومسلم (521).
فقالوا: لو قلنا إن قوم نوح هم كل سكان الأرض يومئذ، للزم أنه أرسل إلى جميع الناس يومئذ، وهذا يعارض جملة: (وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً).
قال ابن حزم رحمه الله تعالى:
" وقد قال قوم: إن نوحا بعث إلى أهل الأرض كلهم.
قال أبو محمد: وهذا خطأ لأنه تكذيب لقوله صلى الله عليه وسلم إن كل نبي حاشاه إنما بعث إلى قومه خاصة، فصح أن نوحا عليه السلام كذلك، ولا فرق " انتهى من "الإحكام في أصول الأحكام" (5 / 183).
لكن هذا الاستدلال محتمل؛ لأن نص الحديث وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً ، أي: إلى قومه صلى الله عليه وسلم وغير قومه، من عاصره ومن لم يعاصره ممن أتى بعده.
ويبين هذا المعنى رواية الإمام أحمد في "المسند" (22 / 165): بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، وَكَانَ النَّبِيُّ إِنَّمَا يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ رواه مسلم (153).
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى، نقلا عن ابن عقيل رحمه الله تعالى:
" إن خصيصة النبي صلى الله عليه وسلم حاصلة من جهة خفية عن كثير من العلماء؛ وذلك أن شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم جاءت ناسخة لكل شريعة قبلها، فلم يبق يهودية ولا نصرانية ولا دين من سائر الأديان التي جاءت بها النبوات ، إلا أمر بتركها ودعا إلى شريعته.
ومعنى قوله: (كل نبي بعث إلى قومه ) : المراد أنه قد كان يجتمع في العصر الواحد نبيان يدعو كل واحد منهما إلى شريعة تخصه ، ولا يدعو الأمة التي بعث فيها غيره إلى دينه ، ولا يصرف عنه، ولا ينسخ ما جاء به الآخر.
فهذه خصيصة لم تكن لأحد قبله، حتى إن نوحا لم ينقل أنه كان معه نبي، فدعا إلى ملته ، ملةَ ذلك النبي ، ولا نسخها. وهذا يدفع ما قالوا وقدروه من الأسئلة ، وعقبوه بالأجوبة.
ويوضح هذا أنه لما وجد ورقة من التوراة بيد عمر قال: ( ألم آتكم بها بيضاء نقية؟ والله لو أدركني موسى لما وسعه إلا اتباعي ). لأنه لا يقدر عيسى أن يقول في التوراة ولا في حق موسى هذه المقالة " انتهى من "كشف المشكل" (3 / 43).
وهذا المفهوم لا يعارض القول بأن قوم نوح هم جميع أهل الأرض يومئذ، لأن نوحا وإن أرسل إليهم جميعا، فهم قومه خاصة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" ويحتمل أنه لم يكن في الأرض عند إرسال نوح إلا قوم نوح ، فبعثته خاصة لكونها إلى قومه فقط، وهي عامة في الصورة لعدم وجود غيرهم، لكن لو اتفق وجود غيرهم لم يكن مبعوثا إليهم " انتهى من "فتح الباري" (1 / 437).
وينظر جواب السؤال رقم : (327751) .
فالحاصل؛ أن المسألة لا يوجد فيها نص صحيح صريح، بل غاية ما في هذه المسألة أن الأمر مشتبه.
قال ابن عطية رحمه الله تعالى:
" وفي أمر نوح عليه السلام تدافع في ظاهر الآيات والأحاديث" انتهى من "المحرر الوجيز" (3 / 168)
فلا يصح أن يستشكل بالأمر المشتبه ، على الأصل الثابت بأن الله لا يعذب قوما إلا بعد ارسال رسول إليهم ينذرهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وهنا أصل لا بد من بيانه ، وهو أنه قد دلت النصوص على أن الله لا يعذب إلا من أَرسل إليه رسولا تقوم به الحجة عليه.
قال - تعالى -: ( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ، اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ، مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا )، وقال - تعالى -: ( رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ )، وقال - تعالى - عن أهل النار: ( كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ، قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ )... " انتهى من "الجواب الصحيح" (2 / 291).
وقد أُمِرنا ، نحن المسلمين، أن نتشبث بالنصوص المحكمة، ولا نعارضها بالنصوص المشتبهة، وحُذِّرنا من ذلك أشد تحذير.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: تَلاَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الآيَةَ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ... .
قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ رواه البخاري (4547)، ومسلم (2665).
والله أعلم.
تعليق