الحمد لله.
الطاعون مرض خاص، يكون من طعن الجن، ويكثر به الموت، ومن مات به فهو شهيد، كما روى البخاري (2830) ومسلم (1916) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ .
قال القاضي عياض رحمه الله: " أصل الطاعون القروح الخارجة فى الجسد.
والوباء: عموم الأمراض. فسميت طاعوناً لشبهها بالهلاك بذلك، وإلا فكل طاعون وباء، وليس كل وباء طاعوناً على ما ذكرناه.
ويدل على ما أشرنا إليه قوله - عليه السلام - في حديث أبى موسى: الطاعون وخز أعدائكم من الجن .
ووباء الشام الذى وقع به: إنما كان طاعونًا وقروحًا، وهو طاعون عمواس" انتهى من إكمال المعلم (7/ 132).
وقال النووي رحمه الله: " والطاعون المذكور في باب الوصية: مرض معروف، هو بثر وورم مؤلم جدًا، يخرج مع لهب، ويسود ما حواليه أو يخضر أو يحمر حمرة بنفسجية كدرة، ويحصل معه خفقان القلب والقيء، ويخرج في المراقّ والآباط، غالبًا، والأيدي والأصابع وسائر الجسد" انتهى من تهذيب الأسماء واللغات (3/ 187).
وقال ابن حجر رحمه الله بعد أن ذكر كلام أهل اللغة وأهل الفقه والأطباء في تعريفه:
"والحاصل: أن حقيقته: ورم ينشأ عن هيجان الدم، أو انصباب الدم إلى عضو فيفسده، وأن غير ذلك من الأمراض العامة، الناشئة عن فساد الهواء: يسمى طاعونا بطريق المجاز؛ لاشتراكهما في عموم المرض به، أو كثرة الموت.
والدليل على أن الطاعون يغاير الوباء: ما سيأتي في رابع أحاديث الباب: أن الطاعون لا يدخل المدينة، وقد سبق في حديث عائشة: قدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله، وفيه قول بلال: أخرَجونا إلى أرض الوباء، وما سبق في الجنائز من حديث أبي الأسود: قدمت المدينة في خلافة عمر وهم يموتون موتا ذريعا، وما سبق في حديث العُرنيين في الطهارة: أنهم استوخموا المدينة، وفي لفظ أنهم قالوا: إنها أرض وبئة.
فكل ذلك يدل على أن الوباء كان موجودا بالمدينة، وقد صرح الحديث الأول بأن الطاعون لا يدخلها؛ فدل على أن الوباء غير الطاعون، وأن من أطلق على كل وباء طاعونا، فبطريق المجاز.
قال أهل اللغة: الوباء: هو المرض العام، يقال أوبأت الأرض، فهي موبئة، ووبئت بالفتح [يعني: بفتح أوله، مبني للفاعل]، فهي وبئة، وبالضم [مبني للمفعول]، فهي موبوءة.
والذي يفترق به الطاعون من الوباء: أصل الطاعون الذي لم يتعرض له الأطباء، ولا أكثر من تكلم في تعريف الطاعون، وهو كونه من طعن الجن.
ولا يخالف ذلك ما قال الأطباء من كون الطاعون ينشأ عن هيجان الدم أو انصبابه؛ لأنه يجوز أن يكون ذلك يحدث عن الطعنة الباطنة، فتحدث منها المادة السمية، ويهيج الدم بسببها، أو ينصَبّ، وإنما لم يتعرض الأطباء لكونه من طعن الجن لأنه أمر لا يدرك بالعقل وإنما يعرف من الشارع، فتكلموا في ذلك على ما اقتضته قواعدهم...
ومما يؤيد أن الطاعون إنما يكون من طعن الجن: وقوعه غالبا في أعدل الفصول وفي أصح البلاد هواءً، وأطيبِها ماء، ولأنه لو كان بسبب فساد الهواء، لدام في الأرض، لأن الهواء يفسد تارة ويصح أخرى، وهذا يذهب أحيانا ويجيء أحيانا، على غير قياس ولا تجربة.
فربما جاء سنةً على سنة، وربما أبطأ سنين.
وبأنه لو كان كذلك لعم الناس والحيوان، والموجود بالمشاهدة أنه يصيب الكثير، ولا يصيب من هم بجانبهم مما هو في مثل مزاجهم.
ولو كان كذلك لعم جميع البدن، وهذا يختص بموضع من الجسد ولا يتجاوزه.
ولأن فساد الهواء يقتضي تغير الأخلاط، وكثرة الأسقام، وهذا في الغالب يقتل بلا مرض.
فدل على أنه من طعن الجن، كما ثبت في الأحاديث الواردة في ذلك، منها:
حديث أبي موسى رفعه: فناء أمتي بالطعن والطاعون ، قيل : يا رسول الله ، هذا الطعن قد عرفناه ، فما الطاعون ؟ قال : وخز أعدائكم من الجن ، وفي كلٍّ شهادة أخرجه أحمد من رواية زياد بن علاقة عن رجل عن أبي موسى ... فالحديث صحيح بهذا الاعتبار، وقد صححه ابن خزيمة والحاكم. وأخرجاه [ابن خزيمة والحاكم] وأحمد والطبراني من وجه آخر، عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري، قال: سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هو وخز أعدائكم من الجن ، وهو لكم شهادة ورجاله رجال الصحيح إلا أبا بَلْج - بفتح الموحدة وسكون اللام بعدها جيم - واسمه يحيى ، وثقه بن معين والنسائي وجماعة ، وضعفه جماعة بسبب التشيع . وذلك لا يقدح في قبول روايته عند الجمهور. وللحديث طريق ثالثة أخرجها الطبراني...
والعمدة في هذا الباب على حديث أبي موسى، فإنه يحكم له بالصحة لتعدد طرقه إليه.
وقوله: وَخْز ، بفتح أوله وسكون المعجمة بعدها زاي . قال أهل اللغة: هو الطعن إذا كان غير نافذ.
ووصف طعن الجن بأنه وخز؛ لأنه يقع من الباطن إلى الظاهر، فيؤثر بالباطن أولا، ثم يؤثر في الظاهر، وقد لا ينفذ.
وهذا بخلاف طعن الإنس فإنه يقع من الظاهر إلى الباطن فيؤثر في الظاهر أولا ثم يؤثر في الباطن، وقد لا ينفذ" انتهى من "فتح الباري" (10/ 180- 182).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " والطاعون قيل: إنه نوع معين من المرض يؤدي إلى الهلاك، وقيل: إن الطاعون كل مرض فتاك منتشر، مثل الكوليرا، فالمعروف أنها إذا وقعت في أرض فإنها تنتشر بسرعة.
والحمى الشوكية، وغيرها من الأمراض التي يعرفها الأطباء، ونجهل كثيراً منها.
فهذه الأمراض التي تنتشر بسرعة وتؤدي إلى الهلاك يصح أن نقول: إنها طاعون حقيقة، أو حكماً.
ولكن الظاهر من السنة خلاف ذلك؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم عَدَّ الشهداء فقال: المطعون والمبطون.
وهذا يدل على أن من أصيب بداء البطن غير من أصيب بالطاعون، والمبطون هو الذي انطلق بطنه" انتهى من الشرح الممتع (11/ 110).
وتحصّل من هذا أمور:
1-أن الطاعون سببه طعن الجن للإنسان.
2-أنه يكون على شكل قروح وبثور وورم مؤلم جدًا، يخرج مع لهب ويسود ما حواليه أو يخضر أو يحمر حمرة بنفسجية كدرة، ويحصل معه خفقان القلب وقيء، ويكون في أماكن معينة من البدن كالآباط، والمراق، وربما أصاب غير ذلك من البدن.
3- أن هناك أوبئة وأمراضا يحصل بها كثرة الموت، فتسمى طاعونا مجازا، لكن ليست هي الطاعون المنصوص على أنه شهادة لمن مات به، لكنها تُلحق بالطاعون في الحجر على أهلها، وفي القدوم عليهم، بجامع العلة.
4-ومما يدل على أن اختصاص الطاعون بما ذكرنا، وأنه قروح وبثور وطعنات:ما روى أحمد (17159) والنسائي (3164) عَنْ عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
يَخْتَصِمُ الشُّهَدَاءُ وَالْمُتَوَفَّوْنَ عَلَى فُرُشِهِمْ، إِلَى رَبِّنَا عَزَّ وَجَلّ،َ فِي الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنَ الطَّاعُونِ، فَيَقُولُ الشُّهَدَاءُ: إِخْوَانُنَا قُتِلُوا كَمَا قُتِلْنَا. وَيَقُولُ الْمُتَوَفَّوْنَ عَلَى فُرُشِهِمْ: إِخْوَانُنَا مَاتُوا عَلَى فُرُشِهِمْ كَمَا مِتْنَا عَلَى فُرُشِنَا.
فَيَقُولُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ: انْظُرُوا إِلَى جِرَاحِهِمْ، فَإِنْ أَشْبَهَتْ جِرَاحُهُمْ جِرَاحَ الْمَقْتُولِينَ، فَإِنَّهُمْ مِنْهُمْ وَمَعَهُمْ، فَإِذَا جِرَاحُهُمْ قَدْ أَشْبَهَتْ جِرَاحَهُمْ
.
والحديث حسنه ابن حجر في الفتح (10/ 194)، وصححه الألباني في صحيح النسائي.
قال السندي في حاشيته على المسند: "قوله: (فإن أشبهت جِراحهم)، بكسر الجيم، ولعلها تشبه في أنها تسيل دماً لونه لون الدم، وريحه ريح المسك" انتهى.
5-وبهذا يعلم أن مرض "كورونا" ليس هو الطاعون الوارد في السنة ، والموعود أهله بأجر الشهادة.
نسأل الله أن يعافينا والمسلمين من البلاء والوباء وسيء الأسقام، وأن يكتب لمن مات به من المسلمين، واسع فضله ورحمته.
والله أعلم.
تعليق