الحمد لله.
التعليق على صحة الخبر المروي عن عبد الله بن عمرو : إن الله عز وجل جزأ الخلق عشرة أجزاء
هذا الخبر رواه أبو بكر المرّوذي في "أخبار الشيوخ" (313)، والطبري في "التفسير" (16 / 244)، والحاكم في "المستدرك" (4 / 490)، بأسانيدهم:
عَنْ عِمْرَانَ الْقَطَّانِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أبي طَلْحَةَ، عَنْ عَمْرِو الْبِكَالِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَزَّأَ الْخَلْقَ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ، فَجَعَلَ تِسْعَةَ أَجْزَاءٍ الْمَلَائِكَةَ، وَجُزْءًا سَائِرَ الْخَلْقِ، وَجَزَّأَ الْمَلَائِكَةَ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ، فَجَعَلَ تِسْعَةَ أَجْزَاءٍ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ وَجُزْءًا لِرِسَالَتِهِ، وَجَزَّأَ الْخَلْقَ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ فَجَعَلَ تِسْعَةَ أَجْزَاءٍ الْجِنَّ، وَجُزْءًا بَنِي آدَمَ، وَجَزَّأَ بَنِي آدَمَ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ، فَجَعَلَ تِسْعَةَ أَجْزَاءٍ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَجُزْءًا سَائِرَ النَّاسِ، ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ )، قَالَ: السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالْحَرَمِ بِحِيَالِهِ الْعَرْشُ".
وقال الحاكم: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ "، ووافقه الذهبي.
لكن في "أخبار الشيوخ" ورد " عن أبي عمر البكالي"، بدل عمرو البكالي، والظاهر أنه وهم.
فهذا الخبر رواته ثقات، وعمران القطان، قد تابعه في هذه الرواية شيبان بن عبد الرحمن، كما في "أمالي ابن بشران" (531)، ومن طريقه رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (46 / 462) فرواه عن قتادة بنحو ما رواه عمران القطان.
وقد خالفه معمرُ فروى هذا الخبر عن قتادة، من كلام عمرو البكالي وليس من كلام عبد الله بن عمرو، كما عند عبد الرزاق في "التفسير" (2 / 392)، و الطبري في "التفسير" (16 / 401)؛ عن مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَمرو الْبِكَالِيِّ، قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ جَزَّأَ الْمَلَائِكَةَ وَالْإِنْسَ وَالْجِنَّ عَشَرَةَ أَجْزَاءَ..." الخبر.
فأسقط قتادة الواسطة بينه وبين عمرو.
كيف نتعامل مع الخبر الموقوف على الصحابي ويروي فيه أمراً من الأمور الغيبية ؟
وعلى أي حال؛ إن كان هذا الخبر موقوفا على عبد الله بن عمرو، فهو قول لا مجال فيه للاجتهاد لأنه من أمور الغيب؛ إلا أن عبد الله بن عمرو ممن نص أهل العلم على أنه يأخذ من كتب أهل الكتاب ، فيما يخص أخبار الماضين وبدء الخلق ونحو هذا، فلذا يحتمل أن يكون هذا منها.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" والحق أن ضابط ما يفسره الصحابي رضي الله عنه إن كان مما لا مجال للاجتهاد فيه، ولا منقولا عن لسان العرب، فحكمه الرفع وإلا، فلا؛ كالأخبار عن الأمور الماضية من بدء الخلق وقصص الأنبياء وعن الأمور الآتية:
كالملاحم والفتن والبعث وصفة الجنة والنار والأخبار عن عمل يحصل به ثواب مخصوص أو عقاب مخصوص، فهذه الأشياء لا مجال للاجتهاد فيها ، فيحكم لها بالرفع...
إلا أنه يستثنى من ذلك ما كان المفسر له من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، ممن عرف بالنظر في الإسرائيليات، كمسلمة أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام وغيره.
وكعبد الله بن عمرو بن العاص؛ فإنه كان حصل له في وقعة اليرموك كتب كثيرة من كتب أهل الكتاب، فكان يخبر بما فيها من الأمور المغيبة، حتى كان بعض أصحابه ربما قال له: حدثنا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تحدثنا عن الصحيفة.
فمثل هذا : لا يكون حكم ما يخبر به من الأمور التي قدمنا ذكرها : الرفع؛ لقوة الاحتمال . والله أعلم. " انتهى من "النكت" (2 / 531 - 533).
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" الأصل الثاني المختلف فيه: قول الصحابي إذا لم يظهر له مخالف...
حاصل تحرير هذه المسألة: أن قول الصحابي الموقوف عليه له حالتان:
الأولى: أن يكون مما لا مجال للرأي فيه.
الثانية: أن يكون مما له فيه مجال.
فان كان مما لا مجال للرأي فيه : فهو في حكم المرفوع، كما تقرر في علم الحديث؛ فيقدم على القياس، ويخص به النص، إن لم يعرف الصحابي بالأخذ من الإسرائيليات... " انتهى من "مذكرة أصول الفقه" (ص 255 - 256).
وأخبار خلق الملائكة والإنس والجن مما يشتهر عند أهل الكتاب، وحتى أخبار يأجوج ومأجوج.
قال ابن حزم رحمه الله تعالى:
" وقد ذكر أمر يأجوج ومأجوج في كتب اليهود التي يؤمنون بها، ويؤمن بها النصارى " انتهى. من "الفصل" (1 / 206).
وإن كان موقوفا على عمرو البكالي، فهو قد اختلف في صحبته، كما في "الإنابة إلى معرفة المختلف فيهم من الصحابة" (2 / 66) لعلاء الدين مغلطاي.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" عمرو البِكالي...
قال البخاريّ: له صحبة. وكذا قال ابن أبي حاتم عن أبيه. وذكره خليفة وابن البرقي في الصحابة. وقال أبو سعيد بن يونس: قدم مصر مع مروان بن الحكم سنة خمس وستين.
وقال أبو أحمد الحاكم في "الكنى": أبو عثمان عمرو البكالي، يقال: له صحبة، كان بالشام.
وأخرج ابن عساكر من طريق المفضل بن غسان، بسنده إلى موسى الكوفي، قال:
وقفت على منزل عمرو البكالي بحمص، وهو أخو نوف البكالي...
وذكره العجليّ في ثقات التابعين، وكذا صنع أبو زرعة الدمشقيّ. واللَّه أعلم " انتهى من"الإصابة" (7 / 486 - 488).
وعلى القول بأن له صحبة، فهو ممن يروي عن عبد الله بن عمرو، وورد ما يشير إلى أنه كان يأخذ من كعب الأحبار الذي اشتهر بأخبار أهل الكتاب، خاصة إذا ضم إلى هذا ما نقله الحافظ ابن حجر بأنه أخو نوف البكالي كما سبق في كلامه، ونوف أمه كانت زوجة كعب الأحبار.
فالحاصل؛ أن هذا الخبر مع أن رواته ثقات؛ إلا أنه موقوف، ويظهر أنه مما أُخذ من كتب أهل الكتاب.
قال الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله تعالى:
" موقوف، والأليق به أنه من الزاملتين – أي كتب أهل الكتاب التي وجدها عبد الله بن عمرو-" انتهى من "المستدرك بتعليق الشيخ مقبل" (4 / 660).
وخبر أهل الكتاب إذا لم نجد في القرآن أو السنة ما يصدّقه أو يكذّبه، فإننا نتوقف فيه.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" ومن المعلوم أن ما يروى عن بني إسرائيل من الأخبار المعروفة بـ "الإسرائيليات" له ثلاث حالات:
في واحدة منها يجب تصديقه: وهي ما إذا دل الكتاب أو السنة الثابتة على صدقه.
وفي واحدة يجب تكذيبه: وهي ما إذا دل القرآن أو السنة أيضا على كذبه.
وفي الثالثة لا يجوز التكذيب ولا التصديق: وهي ما إذا لم يثبت في كتاب ولا سنة صدقه ولا كذبه " انتهى من "أضواء البيان" (4 / 238 - 239).
والله أعلم.
تعليق