الحمد لله.
أولا:
معاهدة المسلم لربه إن حصل ما يرجوه بأنه سيفعل كذا
هذه الصيغة من معاهدة المسلم لربه سبحانه وتعالى بأنه سيلتزم بفعل الشكر إن حصل ما يرجوه من النجاة مما يخافه، هو حقيقة النذر، فهو عهد ونذر يجب الالتزام به إن تحقق شرطه وهو النجاة.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
"النذر لغة: الإيجاب. يقال: نذرت هذا على نفسي، أي: أوجبت. أما في الشرع: فهو إيجاب خاص، وهو إلزام المكلف نفسه شيئا يملكه، غير محال. وينعقد بالقول. وليس له صيغة معينة، بل كل ما دل على الالتزام فهو نذر، سواء قال: لله علي عهد، أو لله علي نذر، أو ما أشبه ذلك مما يدل على الالتزام، مثل: لله علي أن أفعل كذا، وإن لم يقل: نذر، أو عهد." انتهى من "الشرح الممتع" (15 / 207).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
"وقول القائل: لئن ابتلاني الله لأصبرن، ولئن لقيت عدوا لأجاهدن، ولو علمت أي العمل أحب إلى الله لعملته، فهو نذر معلق بشرط، كقول الله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) الآية." انتهى من "الفتاوى الكبرى" (5 / 553 – 554).
ثانيا:
هل يقصد بإطلاق الشكر شكر عام أو شكر بفعل معين؟
الشكر يطلقه المسلم، وقد يريد به ما تعارف عليه الناس من فعل خير شكرا لله تعالى، كسجدة الشكر، أو ذبح شاة والتصدق بها على الفقراء ونحو هذا. وقد يراد بالشكر: عموم الالتزام بالطاعة، بفعل الواجبات، واتقاء المحرمات.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
"وقوله تعالى: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا) أي: وقلنا لهم اعملوا شكرا على ما أنعم به عليكم في الدنيا والدين.
وشكرا: مصدر من غير الفعل، أو أنه مفعول له، وعلى التقديرين: فيه دلالة على أن الشكر يكون بالفعل، كما يكون بالقول وبالنية، كما قال:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة:... يدي، ولساني، والضمير المحجبا
قال أبو عبد الرحمن الحبلي: الصلاة شكر، والصيام شكر، وكل خير تعمله لله شكر. وأفضل الشكر الحمد. رواه ابن جرير.
وروى هو وابن أبي حاتم، عن محمد بن كعب القرظي قال: الشكر تقوى الله والعمل الصالح." انتهى من "تفسير ابن كثير" (6 / 500).
وفي مثل هذه الحال إذا كان لفظ النذر محتملا، فعلى الناذر أن يرجع في تحديد المقصود إلى نيته أثناء النذر، لقول رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى رواه البخاري (1)، ومسلم (1907).
قال القرافي رحمه الله تعالى: "والمعتبر في النذور: النية، فإن عدمت فالعرف." انتهى من "الذخيرة" (4 / 74).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
"الاعتبار بالمعاني والمقاصد في الأقوال والأفعال، فإن الألفاظ إذا اختلفت عباراتها أو مواضعها بالتقدم والتأخر، والمعنى واحد؛ كان حكمها واحدا. ولو اتفقت ألفاظها واختلفت معانيها، كان حكمها مختلفا، وكذلك الأعمال، ومن تأمل الشريعة حق التأمل علم صحة هذا بالاضطرار." انتهى من "أعلام الموقعين" (4 / 552).
وبناء على هذا:
فإن كان قصد الناذر بالشكر هو التطوع بطاعة معينة، من سجود أو صدقة ونحو هذا؛ فإنه يلزمه القيام بها، إن تحقق الشرط وهو النجاة.
وإن نوى القيام بأي عبادة تكون شكرا لله تعالى، فيحصل هذا الشكر بالصلاة أو الصدقة أو قراءة القرآن أو غيرها من العبادات.
وأما إن قصد بالشكر الالتزام بطاعة الله تعالى، بفعل الواجبات، واتقاء المحرمات، انعقد نذره وأصبحت هذه الواجبات واجبة عليه بالشرع والنذر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
"ما وجب بالشرع، إن نذره العبد أو عاهد الله عليه أو بايع عليه الرسول أو الإمام أو تحالف عليه جماعة؛ فإن هذه العهود والمواثيق تقتضي له وجوبا ثانيا، غير الوجوب الثابت بمجرد الأمر الأول، فتكون واجبة من وجهين: بحيث يستحق تاركها من العقوبة ما يستحقه ناقض العهد والميثاق، وما يستحقه عاصي الله ورسوله. هذا هو التحقيق.
ومن قال من أصحاب أحمد: إنه إذا نذر واجبا فهو بعد النذر، كما كان قبل النذر، بخلاف نذر المستحب، فليس كما قال، بل النذر إذا كان يوجب فعل المستحب، فإيجابه لفعل الواجب أولى، وليس هذا من باب تحصيل الحاصل، بل هما وجوبان من نوعين، لكل نوع حكم غير حكم الآخر." انتهى من "مجموع الفتاوى" (20 / 155).
فمن دعا الله تعالى بهذا الدعاء الوارد في السؤال، ثم نجاه الله تعالى، لزمه القيام بشكر الله تعالى بحسب ما نواه من الشكر. فإن لم يكن نوى شيئا محددا، فيكفيه القيام بأي عبادة، تكون شكرا لله تعالى، ووفاء بنذره. حتى لو قال: الحمد لله لكان ذلك كافيا، وقد روى ابن حبان عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أفضل الشكر: الحمد لله حسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1497).
والله أعلم.
تعليق