الحمد لله.
الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت أحدُ الأئمة الأعلام المتبوعين - رحمه الله – مناقبه عظيمة جليلة ، وهو إمام الفقه بلا منازع ، فقيه أهل الكوفة .
وقد وردت آثار تدل على أنه تصدى للإفتاء والتدريس بعد موت شيخه حماد بن أبي سليمان ، إلا أن هذه الآثار في أسانيدها نظر.
فمن ذلك :
ما أخرجه الصيمري في "أخبار أبي حنيفة وأصحابه" (ص21) ، قال:" أخبرنَا أَبُو حَفْص عمر بن إِبْرَاهِيم المقرئ ، قَالَ ثَنَا مكرم بن أحْمَد ، قَالَ ثَنَا ابْن مغلس ، قَالَ ثَنَا ابْن عَابس ، قَالَ سَمِعت حَمَّاد بن سَلمَة ، يَقُول :" كَانَ مفتي الْكُوفَة والمنظور إِلَيْهِ فِي الْفِقْه بعد موت إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان ، فَكَانَ النَّاس بِهِ أَغْنِيَاء ، فَلَمَّا مَاتَ احتاجوا إِلَى من يجلس لَهُم ، وَخَافَ أَصْحَابه أن يَمُوت ذكره ويندرس الْعلم ، وَكَانَ لحماد ابْن حسن الْمعرفَة فَأَجْمعُوا عَلَيْهِ ، فَجَاءَهُ أَصْحَاب أَبِيه أبو بكر النَّهْشَلِي وَأَبُو بردة الْعُتْبِي وَمُحَمّد بن جَابر الْحَنَفِيّ وَغَيرهم ، فَاخْتَلَفُوا إِلَيْهِ ، فَكَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ النَّحْو وَكَلَام الْعَرَب ، فَلم يصبر لَهُم على الْقعُود ، فأجمع رَأْيهمْ على أبي بكر النَّهْشَلِي ، فَسَأَلُوهُ فَأبى ، فسألوا أبا بردة فَأبى ، فَقَالُوا لأبي حنيفَة ، فَقَالَ: مَا أحب أَن يَمُوت الْعلم ، فساعدهم ، وَجلسَ لَهُم ، فَاخْتَلَفُوا إِلَيْهِ ، ثمَّ اخْتلف إِلَيْهِ بعدهمْ أبو يُوسُف وَأسد بن عَمْرو وَالقَاسِم بن معن وَزفر بن الْهُذيْل والوليد وَرِجَال من أهل الْكُوفَة ، فَكَانَ أبو حنيفة يفقههم فِي الدّين وَكَانَ شَدِيد الْبر بهم والتعاهد ، وَكَانَ ابْن ابي ليلى وَابْن شبْرمَة وَشريك وسُفْيَان يخالفونه وَيطْلبُونَ شينه ، فَلم يزل كَذَلِك حَتَّى استحكم أمْرَهْ وَاحْتَاجَ إِلَيْهِ الْأُمَرَاء وَذكره الْخُلَفَاء".
وإسناده لا يصح ، فيه أحمد بن المغلس الحماني ، كذاب ، وضع أخبارا في فضائل أبي حنيفة .
قال الخطيب في "تاريخ بغداد" (5/338) :" حَدَّثَنِي أَبُو الْقَاسِم الأَزْهَرِيّ ، قَالَ: سئل أَبُو الْحَسَن عَلِيّ بْن عُمَر الدَّارَقُطْنِيّ ، وأنا أسمع عَنْ جمع مكرم بْن أَحْمَدَ فضائل أَبِي حنيفة ، فَقَالَ: موضوع كله كذب ، وضعه أَحْمَد بْن المغلس الحماني " انتهى.
ومنها ما أخرجه الصيمري في "أخبار أبي حنيفة وأصحابه" (ص22) ، من طريق مكرم بن أَحْمد قَالَ:" ثَنَا أَحْمد بن عَطِيَّة ، قَالَ: ثَنَا الْحسن بن الرّبيع ، قَالَ : ثَنَا ابْن الْمُبَارك ، قَالَ : "سَمِعت دَاوُد الطَّائِي يَقُول : كَانَ مفتي النَّاس بِالْكُوفَةِ حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان ، وَكَانَ لحماد ابْن يُقَال لَهُ إسماعيل بن حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان ، فَلَمَّا جَاءَ موت حَمَّاد أَجمعُوا أن يكون إِسْمَاعِيل يجلس لَهُم ويصبر عَلَيْهِم ، فنظروا فَإِذا الْغَالِب عَلَيْهِ الشّعْر والسمر وَأَيَّام النَّاس ، فَقَالَ أبو بكر النَّهْشَلِي - وَكَانَ من أَصْحَاب حَمَّاد - وَأَبُو بردة وَمُحَمّد بن جَابر الْحَنَفِيّ وَجَمَاعَة من أَصْحَاب حَمَّاد فَقَالَ أبو حُصَيْن وحبِيب بن أبي ثَابت إِن هَذَا الخزاز حسن الْمعرفَة وَإِن كَانَ حَدثا فَأَجْلَسُوهُ ، فَفَعَلُوا، وَكَانَ رجلا مُوسِرًا سخيا ذكيا ، فَجَلَسَ وصبر نَفسه عَلَيْهِم وَأحسن مؤاساتهم وحباهم وأكرمه الْحُكَّام والأمراء وارتفع شَأْنه ، فَاخْتلف إِلَيْهِ الطَّبَقَة الْعليا ، ثمَّ جَاءَ بعدهمْ أبو يُوسُف وَأسد بن عَمْرو وَالقَاسِم بن معن وَأَبُو بكر الْهُذلِيّ والوليد بن أبان ، وَكَانَ الَّذين يناصبونه ويتكلمون فِيهِ ابْن أبي ليلى وَابْن شبْرمَة وَالثَّوْري وَشريك وَجَمَاعَة يخالفونه وَيطْلبُونَ لَهُ الشين وَجعل أمْرَهْ يزْدَاد علوا وَكثر أصحابه حَتَّى كَانَت حلقته أعظم حَلقَة فِي الْمَسْجِد وأوسعهم فِي الْجَواب ، فَصَبر عَلَيْهِم واتسع على كل ضَعِيف مِنْهُم وَأهْدى إِلَى كل مُوسر ، فَانْصَرَفت وُجُوه النَّاس إِلَيْهِ حَتَّى أكْرمه الْأُمَرَاء والحكام والأشراف ، وَقَامَ بالنوائب وحمده الْكل وَعمل أَشْيَاء أعجزت الْعَرَب وقوى على ذَلِك بِالْعلمِ الْوَاسِع وأسعدته الْمَقَادِير ، فَكثر حساده قَالَ وَكَانَ يَقُول القَاضِي مثل السابح فِي الْبَحْر كم يسبح وَمن يرضى وَإِن كَانَ عَالما".
وإسناده تالف أيضا ، علته مثل سابقه ، وفيه أيضا: " أحمد بن المغلس الحماني ، وقد سُمي هنا باسم " أحمد بن عطية " ، وهو نفسه .
فقد ترجم الخطيب البغدادي له في "تاريخ بغداد" " (5/338) ، فقال :" أَحْمَد بْن الصلت بْن المُغَلِّس أَبُو الْعَبَّاس الحماني ، وقيل أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن الصلت ، ويقال أَحْمَد بْن عطية ، وهو ابْن أخي جبارة بْن المغلس ، كَانَ ينزل الشرقية ، وَحَدَّثَ عَنْ: ثابت بْن مُحَمَّد الزاهد ، وأبي نعيم الْفَضْل بْن دكين ، ومسلم بْن إِبْرَاهِيم ، وبشر بْن الوليد ، ومحمد بْن عَبْد اللَّه بْن نمير ، وجبارة بْن مغلس ، وأبي بَكْر بْن أَبِي شيبة ، وأبي عبيد الْقَاسِم بْن سلام ، أحاديث أكثرها باطلة هو وضعها "انتهى.
ومنها ما أخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد" (15/444) ، من طريق جعفر بن مُحَمَّد بن حازم ، قَالَ: حَدَّثَنَا الوليد بن حماد ، عن الحسن بن زياد ، عن زفر بن الهذيل ، قال: "سمعت أبا حنيفة ، يقول: كنت أنظر في الكلام حتى بلغت فيه مبلغا يشار إلي فيه بالأصابع ، وكنا نجلس بالقرب من حلقة حماد بن أبي سليمان ، فجاءتني امرأة يوما ، فقالت لي: رجل له امرأة أمة أراد أن يطلقها للسنة ، كم يطلقها؟ فلم أدر ما أقول ، فأمرتها أن تسأل حماد ثم ترجع فتخبرني ، فسألت حمادا ، فقال: يطلقها وهي طاهر من الحيض والجماع تطليقة ، ثم يتركها حتى تحيض حيضتين ، فإذا اغتسلت فقد حلت للأزواج ، فرجعت فأخبرتني ، فقلت: لا حاجة لي في الكلام ، وأخذت نعلي فجلست إلى حماد ، فكنت أسمع مسائله ، فأحفظ قوله ، ثم يعيدها من الغد فأحفظها ، ويخطئ أصحابه ، فقال لا يجلس في صدر الحلقة بحذائي غير أبي حنيفة ، فصحبته عشر سنين ، ثم نازعتني نفسي الطلب للرياسة فأحببت أن أعتزله ، وأجلس في حلقة لنفسي ، فخرجت يوما بالعشي ، وعزمي أن أفعل ، فلما دخلت المسجد فرأيته لم تطب نفسي أن أعتزله ، فجئت ، فجلست معه ، فجاءه في تلك الليلة نعي قرابة له قد مات بالبصرة ، وترك مالا وليس له وارث غيره ، فأمرني أن أجلس مكانه ، فما هو إلا أن خرج حتى وردت علي مسائل لم أسمعها منه ، فكنت أجيب وأكتب جوابي ، فغاب شهرين ثم قدم ، فعرضت عليه المسائل وكانت نحوا من ستين مسألة ، فوافقني في أربعين وخالفني في عشرين ، فآليت على نفسي أن لا أفارقه حتى يموت ، فلم أفارقه حتى مات".
وإسناده ضعيف ، في إسناده " الحسن بن زياد اللؤلؤي " ، من كبار فقهاء الحنفية ، إلا أنه ليس بثقة في الحديث ، كذبه ابن معين ، وقال أبو حاتم :" ضعيف الحديث ليس بثقة ولا مأمون " انتهى من "الجرح والتعديل" (3/15)
على أن مثل هذه الأخبار لا يطلب لها من الأسانيد ما يطلب لحديث الصادوق المصدوق، ولا يتشدد في أمر رواياتها، وإنما مدار الأمر فيها على الشهرة بين أهل العلم بالتواريخ، ما لم يكن فيها ما يستنكر.
وقد ورد بإسناد صحيح أن أبا حنيفة لزم حماد بن أبي سليمان ثمانية عشرة سنة ، حتى مات حماد بن أبي سليمان .
وهو ما رواه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (15/444) ، من طريق الوليد بن بكر الأندلسي ، قَالَ: حَدَّثَنَا علي بن أَحْمَد بن زكريا الهاشمي ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مسلم صالح بن أَحْمَد بن عبد الله العجلي ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي ، قال: "قال أَبُو حنيفة: قدمت البصرة فظننت أني لا أسأل عن شيء إلا أجبت عَنْهُ ، فسألوني عن أشياء لم يكن عندي فيها جواب ، فجعلت على نفسي أن لا أفارق حمادا حتى يموت ، فصحبته ثماني عشرة سنة".
وإسناده ثقات أئمة مشهورون .
ومعلوم أن أبا حنيفة رحمه الله ولد سنة ثمانين ، ومات سنة مائة وخمسين ، كما في "تاريخ بغداد" (15/444) ، و"الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء" (ص122) لابن عبد البر ، والذهبي في "مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه" (ص13 ، 48) .
ومعلوم كذلك أن حماد بن أبي سليمان توفي سنة مائة وعشرين .
قال ابن سعد في "الطبقات" (6/333) :" وَأَجْمَعُوا جَمِيعًا عَلَى أَنَّ حَمَّادَ بْنَ أَبِي سُلَيْمَانَ تُوُفِّيَ سَنَةَ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ ". اهـ
فإن كان أبو حنيفة تصدى للإفتاء والتدريس بعد موت شيخه حماد بن أبي سليمان ، فإنه يكون عمره يومئذ أربعين سنة .
ومن أراد التوسع والزيادة يمكنه مراجعة جواب السؤال رقم: (46992).
والله أعلم.
تعليق