الحمد لله.
الشهادة على ثبوت النكاح بالاستفاضة أو التسامُع
تجوز الشهادة على إثبات النكاح بالاستفاضة، بأن يكون الشاهد سمع عددا من الناس يقولون إن فلانا زوج لفلانة، أو استفاض ذلك في البلد حتى استقر في قلبه معرفته.
لكن لا يجوز أن يقول الشاهد: إنه حضر عقد النكاح إلا إذا كان قد حضر بالفعل، وإلا كان كاذبا مقترفا لشهادة الزور.
قال في "شرح منتهى الإرادات" (3/ 579): "(و) الثاني: (سماع بالاستفاضة) بأن يُشتهر المشهود به بين الناس، فيتسامعون به بإخبار بعضهم بعضا.
ولا تسمع شهادة بالاستفاضة إلا (فيما يتعذر علمه غالبا بدونها) - أي الاستفاضة -؛ (كنسبٍ)، إجماعا؛ وإلا لاستحالت معرفته به، إذ لا سبيل إلى معرفته قطعا بغير ذلك، ولا تمكن الشهادة فيه، وكولادة، (وموتٍ، وملْكٍ مطلق)، إذ الولادة قد لا يباشرها إلا المرأة الواحدة، والموت قد لا يباشره إلا الواحد والاثنان ممن يحضره ويتولى غسله وتكفينه، والملك قد يتقادم سببه؛ فتوقُّف الشهادة في ذلك على المباشرة يؤدي إلى العسر خصوصا مع طول الزمن...
(و) كـ (نكاحٍ)، عقدا ودواما، (وخلعٍ وطلاقٍ)، نصا فيهما [أي: نص عليهما الإمام أحمد] ; لأنه مما يشيع ويُشتهر غالبا، والحاجة داعية إليه...
(ولا) يجوز لأحد أن (يشهد باستفاضة إلا) إن سمع ما يشهد به، (عن عدد يقع بهم) -أي: بخبرهم - (العلم)، لأن لفظ الاستفاضة مأخوذ من فيض الماء، لكثرته، قال في شرحه: ويكون ذلك العدد عددَ التواتر ; لأنها شهادة؛ فلا يجوز أن يشهد بها من غير علم، لقوله تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم [الإسراء: 36] " انتهى.
والفقهاء متفقون على صحة شهادة الاستفاضة أو التسامُع.
قال ابن قدامة رحمه الله: "(وما تظاهرت به الأخبار، واستقرت معرفته في قلبه، شهد به، كالشهادة على النسب والولادة).
هذا النوع الثاني من السماع، وهو ما يعلمه بالاستفاضة. وأجمع أهل العلم على صحة الشهادة بها في النسب والولادة...
ما تجوز الشهادة عليه بالاستفاضة
واختلف أهل العلم فيما تجوز الشهادة عليه بالاستفاضة، غير النسب والولادة، فقال أصحابنا: هو تسعة أشياء؛ النكاح، والملك المطلق، والوقف، ومصرفه، والموت، والعتق، والولاء، والولاية، والعزل. وبهذا قال أبو سعيد الإصطخري، وبعض أصحاب الشافعي...
وقال أبو حنيفة: لا تقبل إلا في النكاح، والموت...
وقال أحمد، في رواية المروذي: اشهد أن دار بُختان لبُختان، وإن لم يُشهدك...
إذا ثبت هذا، فكلام أحمد والخرقي، يقتضي أن لا يُشهد بالاستفاضة حتى تكثر به الأخبار، ويسمعه من عدد كثير يحصل به العلم؛ لقول الخرقي: فيما تظاهرت به الأخبار، واستقرت معرفته في القلب. يعني حصل العلم به.
وذكر القاضي، في " المجرد " أنه يكفي أن يسمع من اثنين عدلين، ويسكن قلبه إلى خبرهما؛ لأن الحقوق تثبت بقول اثنين. وهذا قول المتأخرين من أصحاب الشافعي. والقول الأول هو الذي يقتضيه لفظ الاستفاضة، فإنها مأخوذة من فيض الماء؛ لكثرته" "المغني" (10/ 141).
وفي "الموسوعة الفقهية" (4/ 46): " الأمور التي تثبت بها الشهادة بالتسامع:
وقد اختلفت أقوال الفقهاء في ذلك، لكنهم يتفقون في جوازها: في الموت، والنكاح، والنسب.
وعد ابن عابدين من الحنفية عشرة أمور تجوز فيها الشهادة بالاستفاضة.
وفي مغني المحتاج للشافعية أكثر من عشرة، ومثلها عند الحنابلة.
وقد توسع المالكية في ذلك، فعدوا أشياء كثيرة تثبت بالسماع الفاشي، كالملك، والوقف، وعزل القاضي، والجرح، والتعديل، والكفر، والإسلام، والسفه، والرشد، والهيئة، والصدقة، والولادة، والحرابة وغير ذلك" انتهى.
والحاصل:
أن الشهادة بالتسامع، أو الاستفاضة، لإثبات الزوجية: شهادة معتبرة. لكن لا يجوز أن يقول الشاهد إنه حضر عقد النكاح، فهذه شهادة السماع والرؤية المباشرة، وليس التسامع أو الاستفاضة. ومن لم يتمكن من إثبات النكاح في بلده، فيمكنه أن يثبته في بلد مجاور يكتفي فيه القاضي بشهادة الاستفاضة.
والله أعلم.
تعليق