الخميس 9 شوّال 1445 - 18 ابريل 2024
العربية

هل حكم الحاكم يرفع الخلاف في المسائل الخلافية العامة؟

354069

تاريخ النشر : 09-11-2021

المشاهدات : 15109

السؤال

أنا موظف في المحكمة، وكما تعلمون تختلف الأحكام الفقهية بين المذاهب وبين الدول، فمثلاً لدينا في قانون بلدنا أن الطلاق البدعي يقع، فهل يصح أن أفتي من جاء يستفتي بوقوع طلاقه أم لا بأن الطلاق البدعي لا يقع على مذهب الجمهور؟ ‎أم أكون ملزماً بقانون بلدي؟ وهل علي إثم إن خالفت القانون؟ 

الحمد لله.

أولا:

هل رأي السلطان في المسائل الخلافية ملزم لغيره؟

المسائل الخلافية إذا تبنى فيها السلطان أو الأمير قولا، لم يكن ملزما لغيره من العلماء، ولم يكن له أن يلزم به غيره، بل قوله كقول آحاد الناس ولو كان مجتهدا. 
وهذا ما سار عليه الصحابة رضي الله عنهم.

وقد روى البخاري (1563)، ومسلم (1223) عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الحَكَمِ، قَالَ: "شَهِدْتُ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَعُثْمَانُ يَنْهَى عَنِ المُتْعَةِ، وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا رَأَى عَلِيٌّ؛ أَهَلَّ بِهِمَا، لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ، قَالَ:

مَا كُنْتُ لِأَدَعَ سُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ أَحَدٍ".

ورواه أحمد (1139) وفيه: " فَقَالَ عُثْمَانُ: " تَرَانِي أَنْهَى النَّاسَ عَنْهُ وَأَنْتَ تَفْعَلُهُ؟

قَالَ: "لَمْ أَكُنِ أَدَعُ سُنَّةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ".

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفي قصة عثمان وعلي من الفوائد: إشاعة العالم ما عنده من العلم وإظهاره، ومناظرة ولاة الأمور وغيرهم في تحقيقه، لمن قوي على ذلك، لقصد مناصحة المسلمين، والبيان بالفعل مع القول...

وفيه: أن المجتهد لا يلزم مجتهدا آخر بتقليده، لعدم إنكار عثمان على علي ذلك، مع كون عثمان الإمام إذ ذاك." انتهى من "فتح الباري" (3/ 425).

وقد بسط شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الكلام في هذه المسألة، فمما قال:

"الحاكم فيما تنازع فيه علماء المسلمين أو أجمعوا عليه: قوله في ذلك، كقول آحاد العلماء إن كان عالماً، وإن كان مقلداً كان بمنزلة العامة المقلدين.

والمنصبُ والولايةُ لا يجعل من ليس عالماً مجتهداً، عالماً مجتهداً.

ولو كان الكلام في العلم والدين بالولاية والمنصب لكان الخليفة والسلطان أحقَّ بالكلام في العلم والدين، وبأن يستفتيه الناس ويرجعوا إليه فيما أشكل عليهم في العلم والدين!!

فإذا كان الخليفة والسلطان لا يدَّعي ذلك لنفسه، ولا يلزم الرعية حكمه في ذلك بقولٍ دون قولٍ إلا بكتاب الله وسنة رسوله، فمن هو دون السلطان في الولاية أولى بأن لا يتعدى طوره، ولا يقيم نفسه في منصبٍ لا يستحق القيام فيه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي-وهم الخلفاء الراشدون-فضلاً عمن هو دونهم، فإنهم رضي الله عنهم إنما كانوا يلزمون الناس باتباع كتاب ربهم وسنة نبيهم، وكان عمر رضي الله عنه يقول: إنما بعثت عمالي -أي نوابي- إليكم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم ويقسموا بينكم فيأكم.

بل هذه يتكلم فيها من علماء المسلمين من يعلم ما دلت عليه الأدلة الشرعية: الكتاب والسنة، فكل من كان أعلم بالكتاب والسنة، فهو أولى بالكلام فيها من غيره، وإن لم يكن حاكماً.

والحاكم ليس له فيها كلامٌ لكونه حاكماً، بل إن كان عنده علمٌ، تكلم فيها كآحاد العلماء.

فهؤلاء حكموا فيما ليس لهم فيه الحكم بالإجماع، وهذا من الحكم الباطل بالإجماع" انتهى من "مجموع الفتاوى" (27/ 296).

وقال رحمه الله:"وقد فرض الله على ولاة أمر المسلمين اتباعَ الشرع الذي هو الكتابُ والسنة. وإذا تنازع بعضُ المسلمين في شيءٍ من مسائل الدين -ولو كان المنازع من آحاد طلبة العلم- لم يكن لولاة الأمور أن يُلزموه باتباع حكمِ حاكمٍ، بل عليهم أن يُبيِّنوا له الحقَّ، كما يُبَيَّنُ الحقُّ للجاهل المتعلم، فإن تبين له الحقُّ الذي بَعث اللهُ به رسولَه، وظهر وعانده بعد هذا: استحق العقاب" انتهى من "مجموع الفتاوى" (35/ 378).

ثانيا:

المراد بالحاكم في قول أهل العلم: حكم الحاكم يرفع الخلاف.

المقرر عند أهل العلم أن حكم الحاكم يرفع الخلاف، والمراد به- على الصحيح- حكم القاضي ونحوه في المسائل الجزئية العملية؛ فإنه يقطع النزاع، ويسد باب الخصومة، ويجب على المتخاصمين امتثاله، ولو كان أحدهما يذهب إلى القول الآخر.

فحكم الحاكم يلزم المتخاصمين، لا عموم الناس.

قال شيخ الإسلام رحمه الله:

"ليس المرادُ بالشَّرع اللازمِ لجميعِ الخلق حكمَ الحاكم، ولو كان الحاكمُ أفضلَ أهل زمانه، بل حكمُ الحاكم العالم العادل يلزم قوماً معينين، تحاكموا إليه في قضيةً معينةٍ، لا يلزم جميعَ الخلق، ولا يجب على عالمٍ من علماء المسلمين أن يُقلدَ حاكماً لا في قليلٍ ولا في كثير،ٍ إذا كان قد عرف ما أمر اللهُ به ورسولهُ صلى الله عليه وسلم، بل لا يجب على آحاد العامة تقليدُ الحاكم في شيءٍ، بل له أن يستفتيَ من يجوز له استفتاؤه، وإن لم يكن حاكماً" انتهى من "مجموع الفتاوى" (35/ 372).

واشترطوا لذلك أيضا: أن يكون الحاكم – أي القاضي ونحوه – قد حكم بذلك، في القضية المعينة الجزئية، بناء على تحاكم أو اختصام إليه، وليس قولا مبتدأ من عنده، مجردا عن محال النزاع، فإن قوله في ذلك لا يلزم. 

قال الشرواني، الشافعي، رحمه الله: 

"ومحل ذلك كله: حيث صدر حكم صحيح، مبني على دعوى، وجواب. 

أما لو قال الحاكم الحنفي مثلا: حكمت بصحة الوقف وبموجبه، من غير سبق ذلك: لم يكن حكما، بل هو إفتاء مجرد، وهو لا يرفع الخلاف؛ فكأن لا حكم، فيجوز للشافعي بيعه والتصرف فيه." انتهى من "حواشي الشرواني على تحفة المحتاج" (6/246).

وسئل الشيخ سليمان الماجد حفظه الله: "ما المقصود من قول الفقهاء: حكم الحاكم يرفع الخلاف؟ وهل الخلاف هنا الخلاف في المنازعات والخصومات أم يشمل حتى المسائل الخلافية؟ وإذا كان رأي الحاكم أو الإمام بخلاف ما أعتقد هل الواجب طاعته في ذلك؟ وجزاكم الله خيراً.

فأجاب: مقصود العلماء في قولهم: إن حكم الحاكم يرفع الخلاف، إنما يكون في حالين:

الأولى: حكم القاضي في منازعات الناس؛ فهو ملزمٌ للخصمين، ولو كان أحدهما يعتقدُ خلافه؛ فليس للخصم إذا قُضي عليه بما لا يعتقده، أن يحتج بالخلاف.

والثانية: نحوها، ولكن المخاطب بها القاضي لئلا ينقض حكماً سابقاً إذا كان يرى غيره؛ فيقول العلماء حينئذ: إن حكم الحاكم يرفعُ الخلاف؛ فكانت القضيةُ المعينة عند القاضي المخالف لها، كالتي لا خلاف فيها.

والمراد من ذلك تحصيل مقصود القضاء من انقطاع الخصومة.

وأما الفتوى من الحاكم، أو ممن ولَّاهم شأنها، فلا يرفعُ الخلاف، وللمرء في خاصة نفسه وعباداته ومعاملاته وشأنه مع زوجه وأولاده أن يفعل ما يعتقده حقاً في تلك المسائل.

ولا أعلم مخالفاً في هذا، وما نُقل عن بعض أهل العلم المعاصرين من أنه يرفعُ الخلاف، حتى في غير الحالين المذكورتين، فزَلَةٌ لا يُتبع في مثلها؛ لمخالفتها قطعي الشريعة، وهدي السلف" انتهى من موقعه:

وينظر للفائدة تفصيلا أوفى لهذه المسألة، وكلام أهل العلم فيها في رسالة: 

"إلزام ولي الأمر وأثره في المسائل الخلافية"، تأليف عبد الله بن محمد المزورع، وفقه الله. 

وعليه؛ فكون الدولة أو القضاء يأخذ بقول معين في مسألة خلافية، كوقوع الطلاق البدعي، فهذا لا يمنع أن يفتي العالم بغيره، أو أن يأخذ المقلد بغيره، لكن إن تحاكم إلى المحكمة، فأوقعت عليه الطلاق، لم يكن له أن يعترض؛ لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف.

مع التنبيه إلى أن ما جاء في كلام السائل من أن الطلاق البدعي لا يقع على مذهب الجمهور؛ ليس صحيحا؛ بل الطلاق البدعي يقع عند جمهور أهل العلم.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب