الحمد لله.
أولا:
التعريف بأبي الجهم بن حذيفة
أبو الجهم بن حذيفة رضي الله عنه، أحد الصحابة من المعمرين من قريش، حضر بناء الكعبة مرتين: مرة فِي الجاهلية حين بنتها قريش، ومرة حين بناها ابْن الزُّبَيْر، ذكر ذلك ابن عبد البر في "الاستيعاب" (2899).
إلا أن هذا القول المنسوب إليه في السؤال لم نقف عليه في أي رواية مسندة، وإنما ذكره بيبا بن فاليل أحمد سيدي صاحب كتاب "مذاهب الأخيار في أحكام الحج والاعتمار" (ص173)، ولم يذكر له سندا ولم يعزه لأحد.
وقد عزا بعض أهل العلم هذه المقولة الواردة في السؤال إلى كُرْز بن عَلْقَمة الخزاعي.
فقد قال ابن سعد في "الطبقات" (5/458):" كُرْزُ بْنُ عَلْقَمَةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ جَرِيبَةَ بْنِ عَبْدِ نُهْمِ بْنِ حُلَيْلِ بْنِ حُبْشِيَّةَ ابْنِ سَلُولٍ مِنْ خُزَاعَةَ، وَهُوَ الَّذِي قَفَّا أَثَرَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ حِينَ جَاءَا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَانْتَهَى إِلَى بَابِ الْغَارِ الَّذِي هُمَا فِيهِ فَقَالَ: هَاهُنَا انْقَطَعَ الْأَثَرُ، وَهُوَ الَّذِي نَظَرَ إِلَى قَدَمِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلم فَقَالَ: هَذِهِ الْقَدَمُ مِنْ تِلْكِ الْقَدَمِ الَّتِي فِي الْمَقَامِ يَعْنِي قَدَمَ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ." انتهى.
ولم نقف كذلك على إسناده عنه.
ثانيا:
هل قدم النبي صلى الله عليه وسلم تشبه قدم إبراهيم عليه السلام؟
وأما كون قدم النبي صلى الله عليه وسلم تشبه قدم إبراهيم عليه السلام فقد ورد فيه عدة آثار، منها ما يلي:
الأول: أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقرب الناس شبها بإبراهيم عليه السلام؛ هكذا على جهة العموم، دون تقييد ذلك بالقدم.
فقد روى البخاري في "صحيحه" (3437)، ومسلم في "صحيحه" (168)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء، وفيه قال: وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ .
الثاني، وهو أدل على شبه القدم بالقدم: ما أخرجه أحمد في "مسنده" (3072)، وابن ماجه في "سننه" (2350)، من سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس: "أَنَّ قُرَيْشًا أَتَوْا كَاهِنَةً، فَقَالُوا لَهَا: أَخْبِرِينَا بِأَقْرَبِنَا شَبَهًا بِصَاحِبِ هَذَا الْمَقَامِ؟ فَقَالَتْ: إِنْ أَنْتُمْ جَرَرْتُمْ كِسَاءً عَلَى هَذِهِ السَّهْلَةِ، ثُمَّ مَشَيْتُمْ عَلَيْهَا أَنْبَأْتُكُمْ. فَجَرُّوا، ثُمَّ مَشَى النَّاسُ عَلَيْهَا، فَأَبْصَرَتْ أَثَرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: هَذَا أَقْرَبُكُمْ شَبَهًا بِهِ. فَمَكَثُوا بَعْدَ ذَلِكَ عِشْرِينَ سَنَةً، أَوْ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً، أَوْ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ بُعِثَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
وإسناده ضعيف، لأنه من رواية سماك عن عكرمة، وهي مضطربة، كما قال علي بن المديني ويعقوب، نقله المزي في "تهذيب الكمال" (12/120).
والحديث ضعفه الشيخ الألباني في "ضعيف سنن ابن ماجه" (466).
الثالث، وفيه نص على شبه القدم: ما أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (1/117)، من طريق الواقدي، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: وَحَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ عَاصِمٍ الْأَسْلَمِيُّ، عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ جَهْمٍ قَالَ: وَحَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، قَالَ: وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ سُحَيْمٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي حَدِيثِ بَعْضٍ، قَالُوا: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم يَكُونُ مَعَ أُمِّهِ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ قَبَضَهُ إِلَيْهِ جَدُّهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَضَمَّهُ وَرَقَّ عَلَيْهِ رِقَّةً لَمْ يَرِقَّهَا عَلَى وَلَدِهِ، وَكَانَ يُقَرِّبُهُ مِنْهُ وَيُدْنِيهِ وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ إِذَا خَلَا وَإِذَا نَامَ، وَكَانَ يَجْلِسُ عَلَى فِرَاشِهِ، فَيَقُولُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إِذَا رَأَى ذَلِكَ: دَعُوا ابْنِي إِنَّهُ لَيُؤْنِسُ مُلْكًا، وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ: احْتَفِظْ بِهِ فَإِنَّا لَمْ نَرَ قَدَمًا أَشْبَهَ بِالْقَدَمِ الَّتِي فِي الْمَقَامِ مِنْهُ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ لِأَبِي طَالِبٍ: اسْمَعْ مَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ، فَكَانَ أَبُو طَالِبٍ يَحْتَفِظُ بِهِ ".
وهذه كلها مراسيل، وفي إسنادها الواقدي، وهو متروك الحديث، إلا أنه يستشهد به في المغازي والسير.
وعلى كل؛ فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه في حديث الإسراء السابق: "وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ"، كاف في الاستدلال به على أن النبي صلى الله عليه وسلم أشبه الناس بإبراهيم عليه السلام، ويستأنس بالروايتين الأخيرتين، أما نسبة القول لأبي جهم فلم نقف عليه.
والله أعلم.
تعليق