الحمد لله.
أولاً:
يجب العدل بين الأولاد في العطية
يلزم الأب أن يعدل بين أولاده في العطية على الراجح؛ لما البخاري (2587) عَنْ عَامِرٍ قَالَ : " سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ أَعْطَانِي أَبِي عَطِيَّةً فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنِّي أَعْطَيْتُ ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً فَأَمَرَتْنِي أَنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ لَا قَالَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ قَالَ فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ ".
وفي رواية للبخاري أيضا (2650): لَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ .
لا يجب العدل في النفقة بين الأولاد
ولا يلزمه العدل في النفقة، فمن احتاج من الأولاد إلى سكن، ولم يكن معه أجرة السكن، جاز لأبيه أن يسكنه مجانا، ومن كان قادرا على الأجرة أخذ منه الأجرة، ولا يكون بذلك ظالما؛ لأن الأول سكنه من باب النفقة، والثاني سكنه من باب العطية.
وفي باب النفقة يعطى كل واحد ما يناسبه، فمن لديه أسرة كبيرة يعطى شقة كبيرة، بخلاف غيره.
وأما في باب العطية فيلزم العدل، فلو أعطى أحدهم شقة كبيرة، أعطى الآخر مثله، فإن لم توجد إلا شقة صغيرة، أعطاها له، وزاده مالا شهريا تعويضا عن النقص، أو أخذ من صاحب الشقة الكبيرة جزءا من الأجرة شهريا، إذا لم يملكهما الشقتين.
فإن ملكهما الشقتين، عوض صاحب الشقة الصغيرة بمال، أو أخذ مالا من صاحب الشقة الكبيرة مقابل الجزء الزائد عن أخيه، فلو كانت الصغيرة تساوي 100 والكبيرة تساوي 150 أخذ الأب 50 من صاحب الشقة الكبيرة، ليتحقق العدل.
قال ابن قدامة في "المغني" (6/ 51): " فإن خص بعضهم بعطيته، أو فاضل بينهم فيها: أثم، ووجبت عليه التسوية بأحد أمرين؛ إما رد ما فضل به البعض، وإما إتمام نصيب الآخر" انتهى.
ثانيا:
كيفية العدل في العطية بين الأبناء والبنات
إذا كان الأولاد ذكورا وإناثا، فهل تعطى البنت مثل الذكر أو نصفه؟
في ذلك خلاف، والجمهور على أنها تعطى مثله، وذهب الحنابلة إلى أنها تعطى نصفه كالميراث.
قال ابن قدامة في "المغني" (6/ 53): " فالتسوية المستحبة أن يقسم بينهم على حسب قسمة الله تعالى الميراث، فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وبهذا قال عطاء، وشريح، وإسحاق، ومحمد بن الحسن. قال شريح لرجل قسم ماله بين ولده: ارددهم إلى سهام الله تعالى وفرائضه. وقال عطاء: ما كانوا يقسمون إلا على كتاب الله تعالى.
وقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وابن المبارك: تعطى الأنثى مثل ما يعطى الذكر" انتهى.
ثالثا:
خلاف الفقهاء في وجوب العدل في العطية بين الأولاد
اعلم أن وجوب العدل في العطية للأولاد محل خلاف بين الفقهاء، وقد ذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي: إلى عدم الوجوب، ولعل والدك استفتى من أفتاه بذلك.
قال ابن قدامة في بيان هذا الخلاف: " وجملة ذلك أنه يجب على الإنسان التسوية بين أولاده في العطية...
قال طاوس: لا يجوز ذلك، ولا رغيف محترق. وبه قال ابن المبارك وروي معناه عن مجاهد، وعروة.
وكان الحسن يكرهه، ويجيزه في القضاء.
وقال مالك، والليث، والثوري، والشافعي، وأصحاب الرأي: ذلك جائز. وروي معنى ذلك عن شريح، وجابر بن زيد، والحسن بن صالح؛ لأن أبا بكر - رضي الله عنه - نحل عائشة ابنته جذاذ عشرين وسقا، دون سائر ولده.
واحتج الشافعي بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث النعمان بن بشير: أشهد على هذا غيري ؛ فأمره بتأكيدها دون الرجوع فيها. ولأنها عطية تلزم بموت الأب، فكانت جائزة، كما لو سوى بينهم.
ولنا : ما روى النعمان بن بشير قال: تصدق علي أبي ببعض ماله، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فجاء أبي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليشهده على صدقته، فقال: أكل ولدك أعطيت مثله؟ قال: لا. قال: فاتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم. قال: فرجع أبي، فرد تلك الصدقة . وفي لفظ قال: " فاردده ". وفي لفظ قال: " فأرجعه "، وفي لفظ: " لا تشهدني على جور " ، وفي لفظ: " فأشهد على هذا غيري "، وفي لفظ: " سو بينهم ". وهو حديث صحيح، متفق عليه.
وهو دليل على التحريم؛ لأنه سماه جورا، وأمر برده، وامتنع من الشهادة عليه، والجور حرام، والأمر يقتضي الوجوب.
ولأن تفضيل بعضهم يورث بينهم العداوة والبغضاء وقطيعة الرحم، فمنع منه، كتزويج المرأة على عمتها أو خالتها.
وقول أبي بكر لا يعارض قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يحتج به معه.
ويحتمل أن أبا بكر - رضي الله عنه - خصها بعطيته لحاجتها وعجزها عن الكسب والتسبب فيه، مع اختصاصها بفضلها، وكونها أم المؤمنين زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وغير ذلك من فضائلها.
ويحتمل أن يكون قد نحلها ونحل غيرها من ولده، أو نحلها وهو يريد أن ينحل غيرها، فأدركه الموت قبل ذلك.
ويتعين حمل حديثه على أحد هذه الوجوه؛ لأن حمله على مثل محل النزاع منهي عنه، وأقل أحواله الكراهة، والظاهر من حال أبي بكر اجتناب المكروهات.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: فأشهد على هذا غيري : ليس بأمر؛ لأن أدنى أحوال الأمر الاستحباب والندب، ولا خلاف في كراهة هذا. وكيف يجوز أن يأمره بتأكيده، مع أمره برده، وتسميته إياه جورا، وحمل الحديث على هذا، حمل لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - على التناقض والتضاد.
ولو أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإشهاد غيره، لامتثل بشير أمره، ولم يرد، وإنما هذا تهديد له على هذا، فيفيد ما أفاده النهي عن إتمامه. والله أعلم" انتهى من"المغني" (6/ 52).
رابعا:
سكن الابن في شقة لأبيه ولا يستطيع دفع الأجرة
إذا كان أخوك الأكبر لا يقدر على أجرة السكن، فلا حرج في إسكانه بلا أجرة، وهي نفقة لا عطية، كما تقدم.
وإذا كان والدك يأخذ من أختك أجرة قدرها 12 ألفا فقط، فلعله راعى أن هذا مقابل الزيادة في شقتها عن شقتك ، أو راعى حاجتها إلى المال .
وعلى كل ؛ فلو فرض أن أباك قد جار في العطية، فإن هذا لا يسقط حقه في البر والإحسان، ولا يُجيز لك أن تدعو عليه، فهذا الدعاء من العقوق الذي يجب أن تتوب منه.
فعن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قَالَ:
" مَا مِنْ مُسْلِمٍ لَهُ وَالِدان مُسلمان ، يُصْبِحُ إِلَيْهِمَا مُحسنا، إِلَّا فَتْحَ لَهُ اللَّهُ بابين -يعنى من الجنة - ، وإن كان واحد فَوَاحِدًا. وَإِنْ أَغْضَبَ أَحَدَهُمَا لَمْ يرضَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى يَرْضَى عَنْهُ ".
قِيلَ: وَإِنْ ظَلَمَاهُ؟
قال وإن ظلماه" .
رواه البخاري في "الأدب المفرد" (7) عن ابن عباس، من قوله، موقوفا عليه. قال الشيخ عبد الله السعد حفظه الله: " خبر موقوف، وإسناده صالح، ولا يصح مرفوعا " انتهى، من تعليق الشيخ على "الأدب المفرد" ص (56).
ويمكنك الاستعانة بمن ينصح والدك في حال جوره.
ونسأل الله أن يصلح أمركم، ويؤلف بين قلوبكم.
والله أعلم.
تعليق