الخميس 20 جمادى الأولى 1446 - 21 نوفمبر 2024
العربية

هل يشترط في التوبة من الكفر والبدعة والمعصية أن يبين وينصح من أضلهم؟

357684

تاريخ النشر : 31-05-2022

المشاهدات : 18632

السؤال

بالنسبة إلى جواب السوال:(258025)، وخاصة في هذه الجملة : " ثانيا : من دعا الناس إلى كفر أو ردة ، ثم تاب وأسلم : صح إسلامه، ولا يشترط لذلك أن يدعو من كفر أو ارتد بسببه". أنا أظن أن هذا يخالف قول الله تعالى : ( إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)البقرة/160، فإن المرتد الذي دعى أو كان سببا في ردة آخرين، فإذا تاب، اي ندم، وأقلع وعزم ألا يعود إلى كفره، ولكن لا يصلح مع القدرة على إزالة ما قد أفسده بالنسبة إلى الذين كفروا بسببه، ألا يكون هذا مستمرا على الكفر، ولا يدخل في الاسلام؛ لأن الله لم يتب عليه لعدم قيامه بالإصلاح؟ ولهذا أليس خطأ أن يقال بأن إسلامه صحيح، وأنه يأثم فقط إذا لم يصلح أو يدعو مع القدرة عليها ؟

ملخص الجواب

من تاب من الكفر أو غيره تاب الله عليه، حتى لو لم يبين لمن ضل بسببه، ولا يقال: إنه حينئذ مستمر في الكفر لأن توبته لم تصح، بل توبته صحيحة والحمد لله، وينبغي أن يبين وأن ينصح وأن ينكر المنكر على قدر استطاعته.

الحمد لله.

أولا:

هل يشترط لصحة توبة الداعي للكفر والبدعة أن يدعو من ضل بسببه؟

قد بين أهل العلم شروط التوبة، وهي الإقلاع ، والندم ، والعزم على عدم العود ، ورد المظالم، ولم يشترطوا في توبة الداعي للكفر أو البدعة : أن يبين ، أو يدعو من ضل بسببه، فلا تتوقف توبته على ذلك.

وما زال أهل البدع والضلالات يتوبون، ويسلمون، ولا يقول لهم قائل: إن إسلامك لا يصح، أو توبتك لا تقبل إلا بعد أن تبين لمن أضللته ، باطل ما دعوتَه إليه ، لا سيما إن كان المراد بذلك: أن يبين بيانا خاصا بكل شخص أضله، ولم يكن المراد به: البيان العام لما سرى في الناس من ضلالاته.

قال النووي رحمه الله: "قال العلماء: التوبة واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي، فلها ثلاثة شروط: أحدها: أن يقلع عن المعصية. والثاني: أن يندم على فعلها. والثالث: أن يعزم أن لا يعود إليها أبدا. فإن فقد أحد الثلاثة لم تصح توبته.

وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فشروطها أربعة: هذه الثلاثة، وأن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت مالا أو نحوه رده إليه، وإن كانت حد قذف ونحوه مكّنه منه أو طلب عفوه، وإن كانت غيبة استحله منها" انتهى من "رياض الصالحين" ص 33.

وقال ابن عقيل في الإرشاد: "الرجل إذا دعا إلى بدعة ، ثم ندم على ما كان ، وقد ضل به خلق كثير، وتفرقوا في البلاد ، وماتوا ؛ فإن توبته صحيحة إذا وجدت الشرائط ، ويجوز أن يغفر الله له ويقبل توبته ، ويسقط ذنب من ضل به ، بأن يرحمه ويرحمهم . وبه قال أكثر العلماء" انتهى من "الآداب الشرعية لابن مفلح" (1/ 110).

ونقلنا في الجواب السابق قول صاحب مراقي السعود:

من تاب بعد أن تعاطى السببا ... فقد أتى بما عليه وجبا

وإن بقي فساده كمن رجع ... عن بث بدعة عليها يتبع

والدليل على ما قررناه في ذلك هو عدم الدليل على خلافه ، فليس في القرآن أو السنة إلزام للتائب أن يبحث عمن ضل بسببه، وأن يبين له، ولله الحمد؛ إذ هذا أمر ليس بالسهل، وفيه تعسير التوبة.

ويمكن أن يستدل لذلك بقوله تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا البقرة/286.

قال الشيخ الأمين الشنقيطي رحمه الله: " من تاب من الذنب الذي هو متلبس به، مع بقاء فساد ذلك الذنب، أي: أثره السيء هل تكون توبته صحيحة، نظرا إلى أنه فعل في توبته كل ما يستطيعه، وإن كان الإقلاع عن الذنب لم يتحقق، للعجز عن إزالة فساده في ذلك الوقت، أو لا تكون توبته صحيحة ; لأن الإقلاع عن الذنب الذي هو ركن التوبة لم يتحقق؟

ومن أمثلة هذا: من كان على بدعة من البدع السيئة، المخالفة للشرع المستوجبة للعذاب، إذا بث بدعته، وانتشرت في أقطار الدنيا، ثم تاب من ارتكاب تلك البدعة، فندم على ذلك ونوى ألا يعود إليه أبدا، مع أن إقلاعه عن بدعته لا قدرة له عليه، لانتشارها في أقطار الدنيا ; ولأن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، ففساد بدعته باق".

وذكر أمثلة أخرى ثم قال: " فجمهور أهل الأصول على أن توبته في كل الأمثلة صحيحة ; لأن التوبة واجبة عليه، وقد فعل من هذا الواجب كل ما يقدر عليه، وما لا قدرة له عليه معذور فيه ; لقوله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) البقرة/ 286 ، إلى آخر الأدلة التي قدمناها قريبا" انتهى من "أضواء البيان" (5/ 526).

ثانيا:

هل يلزم التائب للحق بيان الحق الذي انتقل إليه؟

مع ما سبق تقريره، فإن بيان هذا التائب للحق الذي انتقل إليه ، ودعوته إليه : قد يكون واجبا عينيا، أو كفائيا، لكن من غير أن يشترط في حقه أن يتتبع كل من تبعوه على بدعته، فيبين لهم بأشخاصهم ما كان عليه من البدعة والضلال، بل يكفيه أن تظهر منه توبته عن البدعة والضلالة، ظهورا عاما.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله:

"وهذه آية عظيمة جامعة – يعني: قوله تعالى: ( إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ) - من أعظم الآيات نفعا ، وفيها رد على طوائف ؛ رد على من يقول إن الداعي إلى البدعة لا تقبل توبته ، ويحتجون بحديث إسرائيلي ، فيه: أنه قيل لذلك الداعية: فكيف بمن أضللت؟.

وهذا يقوله طائفة ممن ينتسب إلى السنة والحديث، وليسوا من العلماء بذلك، كأبي علي الأهوازي وأمثاله ممن لا يميزون بين الأحاديث الصحيحة والموضوعة، وما يحتج به وما لا يحتج به؛ بل يروون كل ما في الباب محتجين به.

وقد حكى هذا طائفة قولا في مذهب أحمد، أو رواية عنه.

وظاهر مذهبه، مع مذاهب سائر أئمة المسلمين: أنه تقبل توبته، كما تقبل توبة الداعي إلى الكفر، وتوبة من فتن الناس عن دينهم.

وقد تاب قادة الأحزاب: مثل أبي سفيان بن حرب والحارث ابن هشام وسهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم، بعد أن قُتل على الكفر - بدُعائهم - من قُتل، وكانوا من أحسن الناس إسلاما، وغُفر الله لهم؛ قال تعالى: قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف

وعمرو بن العاص كان من أعظم الدعاة إلى الكفر والإيذاء للمسلمين، وقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم لما أسلم: يا عمرو؛ أما علمت أن الإسلام يجب ما كان قبله.

وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود في قوله: أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، قال: كان ناس من الإنس يعبدون ناسا من الجن، فأسلم أولئك الجن، والإنس يعبدونهم. ففي هذا أنه لم يضر الذين أسلموا، عبادةُ غيرهم بعد الإسلام لهم، وإن كانوا هم أضلوهم أولا.

وأيضا؛ فالداعي إلى الكفر والبدعة، وإن كان أضل غيره؛ فذلك الغير يعاقَب على ذنبه؛ لكونه قبل من هذا واتبعه، وهذا عليه وزره ووزر من اتبعه إلى يوم القيامة، مع بقاء أوزار أولئك عليهم. فإذا تاب من ذنبه؛ لم يبق عليه وزره، ولا ما حمله هو لأجل إضلالهم. وأما هم؛ فسواء تاب، أو لم يتب: حالهم واحد.

ولكن توبته قبل هذا: تحتاج إلى ضد ما كان عليه؛ من الدعاء إلى الهدى، كما تاب كثيرٌ من الكفار وأهل البدع، وصاروا دعاة إلى الإسلام والسنة، وسحرة فرعون كانوا أئمة في الكفر ثم أسلموا وختم الله لهم بخير." انتهى من "مجموع الفتاوى" (16/24-25).

وينظر ما سبق في الجواب رقم:(258025).

ثالثا:

توجيه قول الله تعالى : (إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا)

وأما قوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) البقرة/160 فهو فيمن كتم صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأخفى نبوته، فتوبته أن يبيّن، وهي استثناء مما قبلها: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) البقرة/159.

قال الطبري رحمه الله: " يعني تعالى ذكره بذلك: أن الله واللاعنين يَلعنون الكاتمين الناس ما علموا من أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصفته ونعته في الكتاب الذي أنزله الله وبَيَّنه للناس، إلا من أناب من كتمانه ذلك منهم؛ ورَاجع التوبة بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، والإقرار به وبنبوّته، وتصديقه فيما جاء به من عند الله، وبيان ما أنزل الله في كتبه التي أنزل إلى أنبيائه، من الأمر باتباعه؛ وأصلح حالَ نفسه بالتقرب إلى الله من صَالح الأعمال بما يُرضيه عنه؛ وبيَّن الذي عَلم من وَحي الله الذي أنزله إلى أنبيائه وعهد إليهم في كتبه فلم يكتمه، وأظهرَه فلم يُخفِه =(فأولئك) يعني: هؤلاء الذين فَعلوا هذا الذي وصفت منهم، هم الذين أتوب عليهم، فأجعلهم من أهل الإياب إلى طاعتي، والإنابة إلى مَرضَاتي" انتهى من "تفسير الطبري" (3/ 259).

وإذا قلنا إن الآية عامة ، فغاية ما هنالك أن يكون اشتراط "البيان" المذكور، هو في حق من كتم شيئا من الحق عنده، ولم يظهره لغيره؛ إذا لم يكن هذا الحق عند غيره، ولم يظهر أمره في الناس عامة، أو سُئل هو عنه، بعد توبته، فكتمه؛ وليس هو في حق كل من تاب عن ذنب، أو بدعة أو ضلالة. فهذا قد تقرر بيان قبول توبته، وعلى هذا مضى أمر الناس منذ أول الإسلام.

قال الشوكاني رحمه الله: " واختلفوا: من المراد بذلك؟

فقيل: أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم.

وقيل: كل من كتم الحق وترك بيان ما أوجب الله بيانه، وهو الراجح، لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول؛ فعلى فرض أن سبب النزول ما وقع من اليهود والنصارى من الكتم، فلا ينافي ذلك تناول هذه الآية كل من كتم الحق." انتهى، من "فتح القدير"(1/187).

وقال السعدي، رحمه الله:

" هذه الآية وإن كانت نازلة في أهل الكتاب، وما كتموا من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاته، فإن حكمها عام لكل من اتصف بكتمان ما أنزل الله مِنَ الْبَيِّنَاتِ الدالات على الحق المظهرات له، وَالْهُدَى وهو العلم الذي تحصل به الهداية إلى الصراط المستقيم، ويتبين به طريق أهل النعيم، من طريق أهل الجحيم، فإن الله أخذ الميثاق على أهل العلم، بأن يبينوا الناس ما منّ الله به عليهم من علم الكتاب ولا يكتموه، فمن نبذ ذلك وجمع بين المفسدتين، كتم ما أنزل الله، والغش لعباد الله، فأولئك يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ أي: يبعدهم ويطردهم عن قربه ورحمته.

وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ وهم جميع الخليقة، فتقع عليهم اللعنة من جميع الخليقة، لسعيهم في غش الخلق وفساد أديانهم، وإبعادهم من رحمة الله، فجوزوا من جنس عملهم، كما أن معلم الناس الخير، يصلي الله عليه وملائكته، حتى الحوت في جوف الماء، لسعيه في مصلحة الخلق، وإصلاح أديانهم، وقربهم من رحمة الله، فجوزي من جنس عمله، فالكاتم لما أنزل الله، مضاد لأمر الله، مشاق لله، يبين الله الآيات للناس ويوضحها، وهذا يطمسها فهذا عليه هذا الوعيد الشديد.

إِلا الَّذِينَ تَابُوا أي رجعوا عما هم عليه من الذنوب، ندما وإقلاعا، وعزما على عدم المعاودة وَأَصْلَحُوا ما فسد من أعمالهم، فلا يكفي ترك القبيح حتى يحصل فعل الحسن.

ولا يكفي ذلك في الكاتم أيضا، حتى يبين ما كتمه، ويبدي ضد ما أخفى، فهذا يتوب الله عليه" انتهى، من "تفسير السعدي" (77).

وعلى ذلك؛ فاشتراط "البيان"، إنما هو في حق من كتم ما يجب عليه بيانه؛ ومن ذلك: أن يتوب، ثم يسأل عن بدعته السابقة، أو ضلاله، أو كفره السابق؛ فلا يبين ما فيه، ويكتم ما هو عليه في الحال من الحق، فهذا دليل بين على أنه لم يتب أصلا، أو لم تصح توبته.

فمدار الأمر، كما تقرر مما سبق: إنما هو على صدق توبة هذا التائب، وإن كان كافرا، أو مبتدعا.

قال السفاريني، رحمه الله:

" دخل في عموم ما ذكرنا - الحلولية، والإباحية، ومن يفضل متبوعه على الأنبياء، ومن يزعم أنه إذا حصلت له المعرفة والتحقيق سقط عنه الأمر والنهي، ومن يزعم أن العارف المحقق يجوز له التدين بدين اليهود والنصارى، وبأي دين شاء، وأنه لا يجب عليه الاعتصام بالكتاب والسنة، وأمثال هؤلاء الطوائف المارقين؛ فمن صدقت توبته، وصلحت سريرته، ومدحت سيرته، ودلت قرائن الأحوال على رجوعه عما كان مرتكبه من الإفك، والضلال، فمقبول عند ذي المنة والأفضال، وبالله التوفيق" انتهى من" لوامع الأنوار" (1/403).

والحاصل:

أن من تاب من الكفر أو غيره تاب الله عليه، حتى لو لم يبين لمن ضل بسببه، ولا يقال: إنه حينئذ مستمر في الكفر لأن توبته لم تصح، بل توبته صحيحة والحمد لله، وينبغي أن يبين وأن ينصح وأن ينكر المنكر على قدر استطاعته.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب