الحمد لله.
اختلَفَ العلماءُ في حكم التَّسبيحِ في الرُّكوعِ والسُّجودِ، على قولين:
القولُ الأوَّلُ:
أنَّ التَّسبيحَ في الرُّكوعِ والسُّجودِ سنَّةٌ، وهو مذهبُ جمهورِ العلماء؛ مِن الحنفيَّةِ ، والمالكيَّةِ ، والشافعيَّةِ، وروايةٌ عن الإمام أحمدَ.
وقال النووي: " وَاعْلَمْ أَنَّ التَّسْبِيحَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ سُنَّةٌ؛ غَيْرُ وَاجِبٍ. هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَالْجُمْهُورُ" انتهى من "شرح النووي على مسلم" (4/197).
وينظر: "تبيين الحقائق" (1/107)، و"شرح مختصر خليل" (1/281)، و"نهاية المحتاج" للرملي (1/499).
واستدل الجمهور بأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لما علَّمَ الأعرابيَّ الذي لم يحسن الصَّلاةَ، لم يذكر له التسبيح في الركوع أو السجود، وإنما علمه الرُّكوعَ والسُّجودَ دون التَّسبيحِ فيهما، فدل ذلك على أن التسبيح في الركوع والسجود غير واجب.
القول الثاني:
أنَّ التَّسبيحَ في الرُّكوعِ والسُّجودِ واجبٌ، وهو مذهبُ الحنابلةِ، والظَّاهريَّةِ.
قال ابن قدامة: " والمَشْهُورُ عن أحمدَ أنَّ تَكْبِيرَ الخَفْضِ وَالرَّفعِ ، وتَسْبِيحَ الرُّكُوعِ والسُّجُودِ ، وقوْلَ : سَمِعَ اللهُ لمَنْ حَمِدَهُ ورَبَّنا وَلكَ الحمدُ، وقولَ: رَبِّى اغْفِرْ لِى. بين السَّجْدتَيْنِ، والتَّشَهُّدَّ الأوَّلَ واجِبٌ. وهو قُوْلُ إسْحاقَ، وداوُد .
وعن أحمدَ : أنِّه غَيْرُ واجِبٍ. وهو قَوْلُ أكثَرِ الفُقَهَاءِ" انتهى من "المغني" (2/180).
والقول بالوجوب: اختارَه شيخ الإسلام ابنُ تيميَّةَ . واختاره من العلماء المعاصرين : الشيخان : ابنِ بازٍ وابنِ عُثَيمين .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَعْلِ هَذَيْنِ التَّسْبِيحَيْنِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، وَأَمْرُهُ عَلَى الْوُجُوبِ " انتهى من "مجموع الفتاوى" (22/ 550).
وقال الشيخ ابن عثيمين: " فقول المصلِّي في ركوعه: سبحان رَبِّي العظيم واجب، وفي سجوده: سبحان رَبِّي الأعلى واجب " انتهى من "الشرح الممتع" (3/320).
واستدلوا بما جاء عن عُقبةَ بنِ عامرٍ رضيَ اللهُ عنه قال: " لَمَّا نزلَتْ: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اجعَلوها في رُكوعِكم ، فلمَّا نزلَتْ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ، قال: اجعَلوها في سجودِكم.
قالوا: والأمر يفيد الوجوب .
والحاصل : أن أكثر العلماء على عدم وجوب التسبيح في الركوع والسجود ، ولكن لا شك أن الأحوط هو الإتيان به ، وأدنى الكمال أن يأتي المصلي بثلاث تسبيحات ، وتجزئه تسبيحة واحدة.
ومن لم يأت بالتسبيح في الركوع والسجود فصلاته صحيحة عند جمهور العلماء ، سواء كان إمامًا أو مأمومًا أو منفردًا ؛ لأن الأصل أن الحكم واحد للجميع ، ما لم يأت دليل يخص أحدهم.
أما القائلون بالوجوب فيرون أن الإمام والمنفرد إذا تركا التسبيح في الركوع والسجود عمدًا فعليهما الإعادة، وإذا تركاه سهوا فإن عليهما سجود سهو.
قال الأمام النووي، رحمه الله: " (فرع)، فِي التَّسْبِيحِ وسائِرِ الأذْكارِ فِي الرُّكُوعِ والسُّجُودِ، وقَوْلُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَن حَمِدَهُ ورَبَّنا لَكَ الحَمْدُ، والتَّكْبِيراتُ غَيْرَ تَكْبِيرَةِ الإحْرامِ:
كُلُّ ذَلِكَ سُنَّةٌ لَيْسَ بِواجِبٍ؛ فَلَوْ تَرَكَهُ لَمْ يَأْثَمْ، وصلاته صحيحة. سواء تركه عمدا أو سَهْوًا. لَكِنْ يُكْرَهُ تَرْكُهُ عَمْدًا.
هَذا مَذْهَبُنا. وبِهِ قالَ مالِكٌ وأبُو حَنِيفَةَ وجمهور العُلَماءِ. قالَ الشَّيْخُ أبُو حامِدٍ: وهُوَ قَوْلُ عامَّةِ الفُقَهاءِ. قالَ صاحِبُ الحاوِي: وهُوَ مَذْهَبُ الفقهاء كافة.
وقال اسحق بن راهويه: التسبيح واجب؛ إن تركه عمدا بَطَلَتْ صَلاتُهُ، وإنْ نَسِيَهُ لَمْ تَبْطُلْ.
وقالَ داوُد: واجِبٌ مُطْلَقًا. وأشارَ الخَطّابِيُّ فِي مَعالِمِ السُّنَنِ إلى اخْتِيارِهِ.
وقالَ أحْمَدُ: التَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ والسُّجُودِ، وقَوْلُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَن حَمِدَهُ وربنا ولك الحمد، والذكر بين السجدتين، وجَمِيعُ التَّكْبِيراتِ: واجِبَةٌ؛ فَإنْ تَرَكَ شيئا منه عَمْدًا بَطَلَتْ صَلاتُهُ، وإنْ نَسِيَهُ لَمْ تَبْطُلْ، ويَسْجُدُ لِلسَّهْوِ عَنْهُ.
وعَنْهُ رِوايَةٌ: أنَّهُ سُنَّةٌ كَقَوْلِ الجُمْهُورِ..." انتهى من "المجموع شرح المهذب" (3/414).
وأما المأموم: فلا يسجد للسهو، ويتحمل الإمام عنه، ما لم يكن مسبوقًا.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "إذا سها المأموم في صلاته ، ولم يكن مسبوقا ، أي أدرك جميع الركعات مع إمامه ، كما لو نسي أن يقول: سبحان ربي العظيم في الركوع ، فإنه لا سجود عليه؛ لأن الإمام يتحمله عنه.
لكن لو فرض أن المأموم سها سهوًا تبطل معه إحدى الركعات، كما لو ترك قراءة الفاتحة نسياناً، فهنا لابد أن يقوم إذا سلم الإمام ويأتي بالركعة التي بطلت من أجل السهو ، ثم يتشهد ويسلم ويسجد بعد السلام .
أما إذا سها المأموم في صلاته ، وكان مسبوقاً ، فإنه يسجد للسهو ، سواء كان سهوه في حال كونه مع الإمام ، أو بعد القيام لقضاء ما فاته ؛ لأنه إذا سجد لم يحصل منه مخالفة لإمامه، حيث إن الإمام قد انتهى من صلاته" انتهى من "رسالة في أحكام سجود السهو" لابن عثيمين رحمه الله.
وينظر للفائدة جواب سؤال رقم: (35909).
والحاصل:
أن التسبيح في الركوع والسجود: مختلف فيه هل مستحب، كما هو قول الجمهور، أم واجب، كما هو مذهب الإمام أحمد ومن وافقه.
ولا شك أن الذي يتأكد على المصلي ألا يترك التسبيح ونحوه من أذكار الصلاة مطلقا، وألا يخلي الركن عن الذكر الوارد له، وإنما ينظر في حكمه لمن تركه سهوا، أو لعذر، وحاجة؛ ولا ينبغي أن يتعمد الإخلال به، ولو لم يكن مبطلا لصلاته. بل قال الإمام النووي، رحمه الله: " مَن واظَبَ عَلى تَرْكِ الرّاتِبَةِ أوْ تَسْبِيحاتِ الرُّكُوعِ والسُّجُودِ رُدَّتْ شَهادَتُهُ لِتَهاوُنِهِ بِالدِّينِ" انتهى من "المجموع" (4/30).
والله أعلم.
تعليق