الحمد لله.
إذا مات الإنسان وترك مالا بدئ بسداد ديونه قبل تقسيم التركة، ولو استغرقت الديون جميع ما ترك؛ لقوله تعالى في قسمة المواريث: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ النساء/11.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (2/ 201) " الدين مقدم على الوصية، وبعده الوصية ثم الميراث، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء" انتهى.
وقال البهوتي رحمه الله في "كشاف القناع": " (ويجب أن يسارع في قضاء دينه، وما فيه إبراء ذمته؛ من إخراج كفارة، وحج نذر، وغير ذلك)، كزكاة، ورد أمانة، وغصب، وعارية؛ لما روى الشافعي وأحمد والترمذي وحسنه، عن أبي هريرة مرفوعاً: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه) ..
(كل ذلك)، أي قضاء الدين وإبراء ذمته، وتفريق وصيته: (قبل الصلاة عليه) لأنه لا ولاية لأحد على ذلك إلا بعد الموت والتجهيز. وفي الرعاية: قبل غسله، والمستوعب: قبل دفنه.
ويؤيد ما ذكره المصنف: ما كان في صدر الإسلام من عدم صلاته صلى الله عليه وسلم على من عليه دين , ويقول: (صلوا على صاحبكم) إلى آخره، كما يأتي في الخصائص.
(فإن تعذر إيفاء دينه في الحال)، لغيبة المال ونحوها: (استحب لوارثه أو غيره أن يتكفل به عنه) لربه، بأن يضمنه عنه، أو يدفع به رهناً، لما فيه من الأخذ في أسباب براءة ذمته، وإلا فلا تبرأ قبل وفائه، كما يأت " انتهى.
وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي حفظه الله: " ومن هنا يأثم الورثة بتأخير سداد الديون، فإذا مات الوالد أو القريب وقد ترك مالاً أو ترك بيتاً، وعليه دين: فيجب على الورثة أن يبيعوا البيت لسداد دينه، وهم يستأجرون، أو يقومون بما يكون حظاً لهم من الاستئجار أو الانتقال إلى مكان آخر، أما أن يبقى الدين معلقاً بذمته وقد ترك المال والوفاء: فهذا من ظلم الأموات، وإذا كان بالوالدين فالأمر أشد؛ وقد ورد في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن نفس المؤمن معلقة بدينه) قال بعض العلماء: إن الإنسان إذا كان عليه دين، فإنه يمنع عن النعيم حتى يؤدى دينه، ولذلك قال: (نفس المؤمن مرهونة بدينه) وفي رواية: (معلقة بدينه) بمعنى: أنها معلقة عن النعيم حتى يقضى دينه.
ويؤكد هذا حديث أبي قتادة رضي الله عنه في الصحيح، فإنه لما جيء برجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (هل ترك ديناً؟) قالوا: دينارين.
فقال: (هل ترك وفاء؟) قالوا: لا. قال: (صلوا على صاحبكم).
فقال أبو قتادة: هما علي يا رسول الله! فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو قتادة: فلم يزل يلقاني ويقول: (هل أديت عنه؟)، فأقول: لا بعد. حتى لقيني يوماً، فقال: (هل أديت عنه؟) قلت: نعم. قال: (الآن بردت جلدته)؛ فهذا يدل على عظم أمر الدين، فينبغي المبادرة بقضاء الديون وسدادها، خاصة ديون الوالدين، فالأمر في حقهم آكد" انتهى من "شرح الزاد".
فالسبيل هنا هو طلب الإمهال أو تقسيط الدين، حتى يمكن سداده من غير اضطرار لبيع المحل والبيت والأراضي، مع السعي في تحصيل ما للميت عند الآخرين، ومحاولة توسيع التجارة ولو بمشاركة الغير ليتوفر المال الذي يسد به الدين.
فإن لم تُجدِ هذه الوسائل نفعا؛ لزم بيع جميع أملاكه لسداد الدين، وحرم الامتناع عن ذلك؛ لأن حق الميت مقدم، وهذا ماله، ورزق أولاده وأهله على الله، وكم من إنسان مات ولم يترك شيئا لأولاده، فليتقوا الله تعالى وليجتهدوا في إبراء ذمة والدهم.
والله أعلم.
تعليق