الحمد لله.
إذا رأت الحائض القَصَّة البيضاء أو النقاء التام، بحيث لو احتشت بقطنة مثلا خرجت نظيفة لا أثر عليها من دم أو صفرة أو كدرة، فقد طهرت من الحيض، ولزمها الاغتسال لأجل الصلاة وما يشترط له الطهارة.
فإن وجدتْ بعد ذلك ما ذكرت من الوسخ وآثار الدم، فلا يلزمها إعادة الغسل، بل هذه نجاسة يجب تطهيرها كما يجب تطهير البول.
والصلوات التي صليتِها مع وجود هذه النجاسة لا يلزم إعادتها؛ لأن من صلى جاهلا وجود النجاسة، أو ناسيا إزالتها، فصلاته صحيحة على الراجح، وهو مذهب جمهور العلماء؛ لما روى أبو داود (650) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ إِذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْقَوْمُ أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ، قَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَاءِ نِعَالِكُمْ؟، قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ جِبْرِيلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا - أَوْ قَالَ: أَذًى.
وكونه صلى الله عليه وسلم لم يعد الصلاة، وبنى على أولها، يدل على أن من لم يعلم بالنجاسة في صلاته، صحت صلاته.
قال النووي رحمه الله: " (فرع) في مذاهب العلماء فيمن صلى بنجاسة نسيها أو جهلها: ذكرنا أن الأصح في مذهبنا وجوب الإعادة. وبه قال أبو قلابة وأحمد.
وقال جمهور العلماء: لا إعادة عليه، حكاه ابن المنذر عن ابن عمر وابن المسيب وطاوس وعطاء وسالم بن عبد الله ومجاهد والشعبي والنخعي والزهري ويحيى الأنصاري والأوزاعي واسحق وأبو ثور.
قال ابن المنذر: وبه أقول، وهو مذهب ربيعة ومالك، وهو قوي في الدليل، وهو المختار" انتهى من "المجموع" (3/157).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " فلو صلى وببدنه أو ثيابه نجاسة ولم يعلم بها إلا بعد الصلاة: لم تجب عليه الإعادة، في أصح قولي العلماء، وهو مذهب مالك وغيره وأحمد في أقوى الروايتين، وسواء كان علمها ثم نسيها أو جهلها ابتداء؛ لما تقدم من أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في نعليه ثم خلعهما في أثناء الصلاة لمّا أخبره جبريل أن بهما أذى، ومضى في صلاته، ولم يستأنفها مع كون ذلك موجودا في أول الصلاة، لكن لم يعلم به" انتهى من "مجموع الفتاوى" (22/184).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " وقوله: (أو نَسيَها) أي: نَسيَ أنَّ النَّجاسة أصابته ، ولم يذكر إلا بعد سلامه فعليه الإعادة على كلام المؤلِّف ؛ لإخلاله بشرط الصَّلاة ؛ وهو اجتناب النجاسة ، فهو كما لو صَلَّى محدثاً ناسياً حدثه.
ومثل ذلك لو نسيَ أن يغسلها .
والرَّاجح في هذه المسائل كلِّها : أنه لا إعادة عليه سواء نسيها ، أم نسي أن يغسلها ، أم جهل أنها أصابته ، أم جهل أنها من النَّجاسات ، أم جهل حكمها ، أم جهل أنها قبل الصَّلاة ، أم بعد الصلاة .
والدَّليل على ذلك : القاعدة العظيمة العامة التي وضعها الله لعباده وهي قوله: ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ) .
وهذا الرَّجُل الفاعل لهذا المحرَّم ، كان جاهلاً أو ناسياً ، وقد رفع الله المؤاخذة به ، ولم يبقَ شيء يُطالب به .
وهناك دليل خاصٌّ في المسألة ، وهو أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صَلَّى في نعلين وفيهما قَذَرٌ ؛ وأعلمه بذلك جبريل لم يستأنف الصَّلاة وإذا لم يُبْطِل هذا أولَ الصَّلاة ، فإنه لا يُبْطِلُ بقيَّة الصَّلاة " انتهى من "الشرح الممتع" (2/232).
على أن النجاسة اليسيرة يعفى عنها عند كثير من الفقهاء.
قال في زاد المستقنع: " ويُعْفَى في غير مائعٍ ومَطْعُومٍ عن يسيرِ دمٍ نجسٍ".
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرحه :
" فمن حَمَل نجاسةً لا يُعفى عَنها ، الفاء هنا للتفريع ، وأفادنا بقوله: لا يُعفى عنها أنَّ من النَّجاسات ما يُعفى عنه ، وهو كذلك ، وقد سَبَقَ أنه يُعفى عن يسير الدَّم إذا كان من حيوان طاهر كدم الآدمي مثلاً، ودم الشَّاة والبعير وما أشبهها، وسَبَقَ أيضاً: أنَّ شيخ الإسلام يرى العفوَ عن يسير جميع النَّجَاسات ، ولا سيَّما إذا شَقَّ التَّحرُّزُ منها مثل أصحاب الحمير الذين يلابسونها كثيراً، فلا يَسلمُ من رشاش بول الحمار أحياناً بل غالباً ، فشيخُ الإسلام يرى أنَّ العِلَّة المشقَّة ، فكلَّما شَقَّ اجتناب النَّجَاسة، فإنَّه يُعفى عن يسيرها ..." انتهى من "الشرح الممتع" (2/225).
والحاصل:
أنه لا إعادة عليك.
والله أعلم.
تعليق