الثلاثاء 14 شوّال 1445 - 23 ابريل 2024
العربية

اختلاف أهل العلم في "مسألة المجاز"

372978

تاريخ النشر : 28-03-2022

المشاهدات : 24379

السؤال

سمعت من بعض المشايخ الثقات أنهم يقولون بأنه لا يوجد في القرآن مجاز، بل كله حقيقة، فهل هذا الكلام صحيح؟ وما الذي يقصدونه بأنه لا يوجد مجاز؟ وإذا كان لا يوجد مجاز، فكيف نفسر قوله تعالى (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا)؟

ملخص الجواب

مسألة المجاز من المسائل الخلافية عند أهل السنة والجماعة، ومن قال بالمجاز فهو بشروطه الصحيحة، ولا يقال به في تفسير نصوص الوحي إلا عند تعذر حملها على الحقيقة، ثم هم كلهم متفقون على اتباع السلف الصالح في فهم نصوص الكتاب والسنة.

الحمد لله.

أولا:

أنواع المجاز

ذهب جماهير أهل العلم إلى تقسيم الكلام إلى: حقيقة ومجاز.

والمجاز عندهم على أنواع.

قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:

" - الأول- المجاز المفرد: وهو عندهم الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له لعلاقة مع قرينة صارفة عن قصد المعنى الأصلي.

والعلاقة إن كانت المشابهة، كقولك: رأيت أسداً يرمي. سمي هذا النوع من المجاز استعارة...

وإن كانت علاقته غير المشابهة كالسببية والمسببية ونحو ذلك، سمي مجازا مفردا مرسلا كقول الشاعر:

أكلت دما إن لم أرعك بضرة * بعيدة مهوى القرط طيبة النشر

أطلق الدم، وأراد الدية مجازا مرسلا علاقته السببية؛ لأن الدية المعبر عنها بالدم سببها الدم وهي مسبب له.

- الثاني -: المجاز المركب:

وضابطه: أن يستعمل كلام مفيد في معنى كلام مفيد آخر، لعلاقة بينهما، ولا نظر فيه إلى المفردات...

وعلاقته: إن كانت المشابهة فهو استعارة تمثيلية، ومنها جميع الأمثال السائرة والمثل يحكي بلفظه الأول...

وإن كانت علاقته غير المشابهة، سمي مجازا مركبا مرسلا، كقوله:

هواي مع الركب اليمانيين مصعد * جنيب وجثماني بمكة موثق

فالبيت كلام خبري أريد به انشاء التحسر والتأسف لأن ما أخبر به عن نفسه هو سبب التحصر والتأسف، وهو مجاز مركب مرسل، علاقته السببية؛ لأنه لم يقصد بهذا الخبر فائدة الخبر، ولا لازم فائدته...

-الثالث-: المجاز العقلي:

فالتجوز فيه في الإسناد خاصة...

كقول المؤمن: أنبت الربيع البقل.

فالربيع وإنبات البقل كلاهما مستعمل في حقيقته، والتجوز إنما هو في اسناد الإنبات إلى الربيع، وهو لله جل وعلا عند المتكلم، وكذلك هو في الواقع...

-الرابع-: مجاز النقص: عندهم ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَة )...

جميع ألفاظه مستعملة فيما وضعت له، والتجوز من جهة الحذف المغير للإعراب " انتهى من "مذكرة أصول الفقه" (ص 88 - 90).

والمجاز لا بد فيه من القرينة الصارفة للفظ من المعنى الحقيقي إلى المجاز.

قال الزركشي رحمه الله تعالى:

" المجاز يحتاج إلى العلاقة وإلى القرينة:

فالعلاقة: هي المجوزة للاستعمال.

والقرينة: هي الموجبة للحمل.

فأما القرينة: فلا بد للمجاز من قرينة تمنع من إرادة الحقيقة عقلا أو حسا أو عادة أو شرعا...

ولا خلاف في أنه لا بد من القرينة، وإنما اختلفوا هل القرينة داخلة في مفهوم المجاز، وهو رأي البيانيين أو شرط لصحته واعتباره، وهو رأي الأصوليين؟ " انتهى من "البحر المحيط" (2 / 192).

ومن أمثلة ذلك، قوله تعالى:( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا ) الإسراء/72.

فلفظ "الأعمى " هنا مجاز عن عدم إبصار القلوب للحق.

وقرينة ذلك؛ أن عرف الشرع في ذم العمى، وهو عدم الإبصار، هو ذم عدم إبصار القلوب للحق وإعراضها عنه.

قال الله تعالى:( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) الحج/46.

وأما عمى الأعين فلا ذم فيه كما هو معلوم من الشرع، بل صاحبه محمود إن آمن وصبر وموعود بالفضل الكبير.

ثانيا:

القول بنفي المجاز في القرآن

ذهب بعض أهل العلم إلى نفي وجود المجاز في القرآن على وجه الخصوص، لأن المجاز خلاف حقيقة اللفظ، فمن قال رأيت أسدا ويريد به رجلا شجاعا. فنستطيع أن نصفه بأنه لم يقل حقا؛ باعتبار ظاهر اللفظ، فننفي قوله، والقرآن حق بيّن، لا يمكن أن ينفى منه شيء.

قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:

" واعلم أن ممن منع القول بالمجاز في القرآن ابن خويز منداد من المالكية، وأبا الحسن الخرزي البغدادي الحنبلي، وأبا عبد الله بن حامد، وأبا الفضل التميمي، وداوود بن علي، وابنه أبا بكر، ومنذر بن سعيد البلوطي وألف فيه مصنفا، وقد بينا أدلة منعه في القرآن في رسالتنا المسماة "منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز".

ومن أوضح الأدلة في ذلك: أن جميع القائلين بالمجاز متفقون على أن من الفوارق بينه وبين الحقيقة: أن المجاز يجوز نفيه باعتبار الحقيقة، دون الحقيقة، فلا يجوز نفيها، فتقول لمن قال: رأيت أسدا على فرسه، هو ليس بأسد وإنما هو رجل شجاع.

والقول في القرآن بالمجاز يلزم منه أن في القرآن ما يجوز نفيه، وهو باطل قطعا، وبهذا الباطل توصل المعطلون إلى نفي صفات الكمال والجلال الثابتة لله تعالى في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، بدعوى أنها مجاز كقولهم في (استوى) استولى. وقس على ذلك غيره، من نفيهم للصفات عن طريق المجاز " انتهى من"المذكرة" (ص 84).

ثالثا:

القول بنفي المجاز مطلقاً

ومن أهل العلم من نفى المجاز مطلقا في القرآن وفي كلام العرب، ومن أشهر من قال بهذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، ومن المعاصرين الشيخ المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى.

ومن أهم ما اعتمدوا عليه:

الأمر الأول: أن القول بالمجاز يلزم منه العلم بأن اللفظ بداية وضع للدلالة فقط على ما يقال عنه حقيقة، ثم استعمل بعد ذلك فيما سمي بالمعنى المجازي، وهذا لا دليل عليه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" وهذا التقسيم والتحديد يستلزم أن يكون اللفظ قد وضع أولا لمعنى، ثم بعد ذلك قد يستعمل في موضوعه، وقد يستعمل في غير موضوعه؛ ولهذا كان المشهور عند أهل التقسيم أن كل مجاز فلا بد له من حقيقة وليس لكل حقيقة مجاز...

وهذا كله إنما يصح لو علم أن الألفاظ العربية وضعت أولا لمعان، ثم بعد ذلك استعملت فيها؛ فيكون لها وضع متقدم على الاستعمال. وهذا إنما صح على قول من يجعل اللغات اصطلاحية، فيدعي أن قوما من العقلاء اجتمعوا واصطلحوا على أن يسموا هذا بكذا وهذا بكذا، ويجعل هذا عاما في جميع اللغات. وهذا القول لا نعرف أحدا من المسلمين قاله قبل أبي هاشم بن الجبائي ...

والمقصود هنا: أنه لا يمكن أحدا أن ينقل عن العرب بل ولا عن أمة من الأمم أنه اجتمع جماعة فوضعوا جميع هذه الأسماء الموجودة في اللغة، ثم استعملوها بعد الوضع، وإنما المعروف المنقول بالتواتر استعمال هذه الألفاظ فيما عنوه بها من المعاني " انتهى من"مجموع الفتاوى" (7 /90 - 91).

وعلى هذا يسمّي بعض أهل العلم ما يدعى بـ ـ "المجاز"، بأنه: أسلوب عربي في التعبير عن الحقيقة.

قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:

" والتحقيق أن اللغة العربية لا مجاز فيها، وإنما هي أساليب عربية تكلمت بجميعها العرب، ولو كلفنا من قال بالوضع للمعنى الحقيقي أولا، ثم للمعنى المجازي ثانيا، بالدليل على ذلك؛ لعجز عن إثبات ذلك عجزاً لاشك فيه " انتهى من"مذكرة أصول الفقه" (ص 91).

الأمر الثاني: أن القول بالمجاز إنما هو عمدة لأهل البدع الذين تلاعبوا بمعاني الوحي، حيث أبطلوا كثيرا من معانيه باستعمال "المجاز"، فنفي المجاز فيه حفظ لعقيدة الإسلام وقطع لذرائع البدع والكفر.

كما جاء في "مختصر الصواعق المرسلة" (ص 285):

" كسر الطاغوت الثالث الذي وضعته الجهمية، لتعطيل حقائق الأسماء والصفات، وهو طاغوت المجاز.

هذا الطاغوت لهج به المتأخرون، والتجأ إليه المعطلون، وجعلوه جُنة يتترسون بها من سهام الراشقين، ويصدون عن حقائق الوحي المبين، فمنهم من يقول: الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولا... " انتهى.

ومن أهل العلم من رأى أن الخلاف بين مثبتي المجاز وبين نفاته من أهل السنة والجماعة، هو خلاف لفظي.

فما يسميه هؤلاء مجازا، يسميه النفاة حقيقة؛ والمعنى متفق.

ولذلك لا يكادون يختلفون في تفسير نصوص الوحي.

قال الشيخ عبد الرحمن المعلمي رحمه الله تعالى:

" بل يفسر هؤلاء كل ما وقع من ذلك في القرآن وغيره نحو تفسير الجمهور، إلا أنهم يأبون أن يسموا ذلك مجازا " انتهى من"آثار الشيخ المعلمي" (8 / 145).

ومثال ذلك: الآية المسؤول عنها.

فيقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي وهو من نفاة المجاز كما سبق:

" قوله تعالى: ( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا ).

المراد بالعمى في هذه الآية الكريمة: عمى القلب لا عمى العين، ويدل لهذا قوله تعالى:( فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ )؛ لأن عمى العين مع إبصار القلب لا يضر، بخلاف العكس، فإن أعمى العين يتذكر، فتنفعه الذكرى ببصيرة قلبه، قال تعالى: ( عَبَسَ وَتَوَلَّى ، أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى ، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ) " انتهى من "أضواء البيان" (3 / 730).

قال ابن قدامة رحمه الله تعالى:

" والقرآن يشتمل على الحقيقة والمجاز:

وهو: اللفظ المستعمل في غير موضوعه الأصلي على وجه يصح.

كقوله تعالى: ( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ )، ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَة )، ( جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضّ )...

وذلك كله مجاز، لأنه استعمال اللفظ في غير موضوعه.

ومن منع ذلك فقد كابر.

ومن سلم وقال: لا أسميه مجازا: فهو نزاع في عبارة لا فائدة في المشاحة فيه. والله أعلم. " انتهى من "روضة الناظر" (1 / 206).

ومما يجعل الخلاف بين أهل السنة والجماعة خلافا لفظيا خصوصا في تفسير نصوص الوحي: هو أنهم متفقون على اتباع سبيل السلف الصالح في فهم نصوص الوحي التي يقال فيها بالمجاز، فيعتنون بعباراتهم ويقتفونها، لكن يختلفون فقط في طريقة بسط هذا التفسير وبيانه والتعبير عنه.

وأما منعه بحجة استدلال أهل الباطل به، فيقول المثبتون من أهل السنة والجماعة: إن ما يدعيه أهل الباطل من التأويلات الباطلة بحجة المجاز، هي تأويلات يمكن بيان بطلانها من غير إنكار لأصل وجود المجاز في القرآن ولغة العرب، بل ببيان عدم صحة المجاز فيها.

قال الشيخ عبد الرحمن المعلمي رحمه الله تعالى:

" نعم، توسعت المبتدعة في دعوى المجاز، فحرفوا كثيرا من نصوص الكتاب والسنة، وزعموا أن نصوصهما لا تفيد إلا الظن. ويكفي في دحض شبهتهم بيان حقيقة المجاز، وأنه لا بد فيه مع قوة العلاقة، وحصول الفائدة: من ظهور القرينة عند المخاطب، فإن المخاطب لا يجوز أن يلقى إليه مجاز ليست قرينته ظاهرة له، وإلا كان الكلام كذبا.

وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى أن المجمل الذي له ظاهر: لا يجوز تأخير بيانه عن وقت الخطاب، والباقون أجازوا التأخير إلى وقت الحاجة فقط.

ولا خلاف عند التحقيق في النصوص التي ينبني عليها اعتقاد، فإن وقت الحاجة فيها هو وقت الخطاب. فهذا وحده كاف لدفع ضلالات المبتدعة، كيف ومعه حجج أخرى ليس هذا محل بسطها.

والمقصود: أنه لا حاجة بأهل السنة إلى تعسف الطعن في المجاز والتشكيك فيه... " انتهى من"آثار الشيخ المعلمي" (8 / 146 - 147).

وينظر أيضا للفائدة حول ذلك: "معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة"، د. محمد حسين الجيزاني (110) وما بعدها.

فالحاصل: أن المسألة خلافية عند أهل السنة والجماعة، ومن قال بالمجاز فهو بشروطه الصحيحة، ولا يقال به في تفسير نصوص الوحي إلا عند تعذر حملها على الحقيقة، ثم هم كلهم متفقون على اتباع السلف الصالح في فهم نصوص الكتاب والسنة.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب