الحمد لله.
جاءت الشريعة برجم الزاني المحصن، هو من تزوج وجامع زوجته في نكاح صحيح وهما بالغان عاقلان حران، وثبت الرجم في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه المسلمون.
ولا فرق بين كون هذا المحصن قد زنى وتحته زوجة، أو كان طلقها، أو ماتت.
وانظر شروط الإحصان في جواب السؤال رقم:(120913).
وأما غير المحصن فحده الجلد ولو زنى ألف مرة.
والمعنى في ذلك: أنه أَمْرُ اللهِ تعالى وشرعُه، لا معقب لحكمه سبحانه وتعالى، وهو أعلم بما يصلح عباده.
قال الله سبحانه : (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) المائدة/50، وقال: ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) التين/8، فالله سبحانه أعلم بما يصلح عباده ، وهو أعلم بهم من أنفسهم (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ )الملك/14.
وقد التمس بعض أهل العلم الحكمة- والحكمة قد تُعلم، وقد لا تعلم- فذكروا أن المحصن أكمل من غير المحصن، فكانت عقوبته أشد وأعظم. وأن الإحصان ينبغي أن يصرف الإنسان عن الزنا، فإنه قد ذاق الحلال وعرف كيف يصل إليه، فكفرانه للنعمة ناسب تغليظ العقوبة عليه، ولئلا يكون قدوة سيئة لغيره، فأرادت الشريعة إغلاق هذا الباب على من أحصن، فلا سبيل له إليه إلا أن يلقى عقوبة هي الموت.
والزاني غي المحصن، وإن ذاق الجماع في الزنا، لكن متعته ناقصة، منغّصة عليه بالإثم والمعصية، فليس كمن وطيء في الحلال، ولم ينل من النعمة ما نال المحصن.
بل من وطيء في نكاح فاسد فاته الكمال، ولم يكن في درجة من وطيء في نكاح صحيح.
قال ولي الله الدهلوي رحمه الله: " إِنَّمَا جعل حد الْمُحصن الرَّجْم، وحد غير الْمُحصن الْجلد؛ لِأَنَّهُ كَمَا يتم التَّكْلِيف ببلوغ خمس عشر سنة أَو نَحوه، وَلَا يتم دون ذَلِك لعدم تَمام الْعقل، وَتَمام الجثة، وَكَونه من الرِّجَال فَلذَلِك يَنْبَغِي أَن تَتَفَاوَت الْعقُوبَة المترتبة على التَّكْلِيف، بأتمية الْعقل وصيرورته رجلا كَامِلا مُسْتقِلّا بأَمْره، مستبدا بِرَأْيهِ، وَلِأَن الْمُحصن كَامِل وَغير الْمُحصن نَاقص، فَصَارَ وَاسِطَة بَين الْأَحْرَار الكاملين وَبَين العبيد.
وَلم يعْتَبر ذَلِك إِلَّا فِي الرَّجْم خَاصَّة لِأَنَّهُ أَشد عُقُوبَة شرعت فِي حق الله" انتهى من "حجة الله البالغة" (2/247).
وقال الدكتور عبد القادر عودة رحمه الله: "وقد وضعت عقوبة الرجم على نفس الأساس الذي وضعت عليه عقوبة الجلد للزاني غير المحصن، ولكن شددت عقوبة المحصن للإحصان؛ لأن الإحصان يصرف الشخص عادة عن التفكير في الزنا، فإن فكر فيه بعد ذلك، فإنما يدل تفكيره فيه على قوة اشتهائه للذة المحرمة، وشدة اندفاعه للاستمتاع بما يصحبها من نشوة؛ فوجب أن توضع له عقوبة فيها من قوة الألم وشدة العذاب ما فيها؛ بحيث إذا فكر في هذه اللذة المحرمة، وذكر معها العقوبة المقررة؛ تغلب التفكير في الألم الذي يصيبه من العقوبة، على التفكير في اللذة التي يصيبها من الجريمة.
ويستكبر البعض منا اليوم عقوبة الرجم على الزاني المحصن، وهو قول يقولونه بأفواههم ولا تؤمن به قلوبهم، ولو أن أحد هؤلاء وجد امرأته أو ابنته تزني، واستطاع أن يقتلها ومن يزني بها لما تأخر عن ذلك.
والشريعة الإسلامية قد سارت في هذه المسألة كما سارت في كل أحكامها، على أدق المقاييس وأعدلها، فالزاني المحصن هو قبل كل شيء مثل سيء لغيره من الرجال والنساء المحصنين، وليس للمثل السيء في الشريعة حق البقاء, والشريعة بعد ذلك تقوم على الفضيلة المطلقة، وتحرص على الأخلاق والأعراض والأنساب من التلوث والاختلاط، وهي توجب على الإنسان أن يجاهد شهوته ولا يستجيب لها إلا من طريق الحلال وهو الزواج، وأوجبت عليه إذا بلغ الباءة أن يتزوج حتى لا يعرض نفسه للفتنة أو يحملها ما لا تطيق, فإذا لم يتزوج، وغلبته على عقله وعزيمته الشهوات؛ فعقابه أن يجلد مائة جلدة، وشفيعه في هذه العقوبة الخفيفة تأخيره في الزواج الذي أدى به إلى الجريمة.
أما إذا تزوج فأحصن، فقد حرصت الشريعة أن لا تجعل له بعد الإحصان سبيلاً إلى الجريمة. فلم تجعل الزواج أبدياً حتى لا يقع في الخطيئة أحد الزوجين إذا فسد ما بينهما ، وأباحت للزوجة .. أن تطلب الطلاق للغيبة والمرض والضرر والإعسار، وأباحت للزوج الطلاق في كل وقت، وأحلت له أن يتزوج أكثر من واحدة على أن يعدل بينهن.
وبهذا فتحت الشريعة للمحصن كل أبواب الحلال، وأغلقت دونه باب الحرام, فكان عدلاً وقد انقطعت الأسباب التي تدعو للجريمة من ناحية العقل والطبع، أن تنقطع المعاذير التي تدعو إلى تخفيف العقاب، وأن يؤخذ المحصن بالعقوبة التي لا يصلح غيرها لمن استعصى على الإصلاح.
ولو أن هؤلاء الذين يجزعون من قتل الزاني رجعوا إلى الواقع، لاستقام لهم الأمر ولعملوا أن الشريعة الإسلامية حين أوجبت قتل الزاني المحصن، لم تأت بشيء يخالف مألوف الناس.
فنحن الآن تحت حكم القانون وهو يعاقب على الزنا بالحبس إذا كان أحد الزانيين محصناً، فإذا لم يكن أحدهما محصناً فلا عقاب، ما لم يكن إكراه، هذا هو حكم القانون، فهل رضي الناس حكم القانون؟ إنهم لم يرضوه ولن يرضوه؛ بل إنهم حين رفضوا حكم القانون القائم مرغمين، أقبلوا على عقوبة الشريعة المعطلة مختارين، فهم يقتصون من الزاني محصناً وغير محصن بالقتل، وهم ينفذون القتل بوسائل لا يبلغ الرجم بعض ما يصاحبها من العذاب، فهم يغرقون الزاني ويحرقونه ويقطعون أوصاله ويهشمون عظامه ويمثلون به أبشع تمثيل, وأقلهم جرأة على القتل يكتفي بالسم يدسه لمن أوجب عليه زناه، ولو أحصينا جرائم القتل التي تقع بسبب الزنا، لبلغت نصف جرائم القتل جميعاً، فإذا كان هذا هو الواقع فما الذي نخشاه من عقوبة الرجم؟
إن الأخذ بها لن يكون إلا اعترافاً بالواقع، والاعتراف بالواقع شجاعة وفضيلة، ولا أظننا بالرغم مما وصلنا إليه من تدهور نكره الإقرار بالحق أو نخشى الاعتراف بالواقع المحسوس" انتهى من "التشريع الجنائي في الإسلام" (1/641).
وكما قدمنا، فالمعول عليه هو أمر الله تعالى وحكمه، سواء اهتدى الناس للحكمة أم لم يهتدوا لها.
والله أعلم.
تعليق