السبت 22 جمادى الأولى 1446 - 23 نوفمبر 2024
العربية

ما حكم دعاء الظالم للمظلوم بصيغة: ( اللَّهُمَّ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَبَبْتُهُ فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ قُرْبَةً إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )؟

379339

تاريخ النشر : 24-03-2023

المشاهدات : 3951

السؤال

لقد قرأت في كتاب حصن المسلم دعاء وهو: الدعاء لمن سببته: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(اللَّهُمَّ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَبَبْتُهُ فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ قُرْبَةً إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). فهل يحل للمسلم أيضا أن يقول هذا الدعاء لمن سب غيره؟ ولقد سألت أناسا أعرفهم عن هذا الدعاء، فقالوا: إن هذا الدعاء خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، فهل هذا صحيح؟

الجواب

الحمد لله.

أولا:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (اللهُمَّ! إِنَّمَا مُحَمَّدٌ بَشَرٌ، يَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، وَإِنِّي قَدِ اتَّخَذْتُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ، فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ آذَيْتُهُ، أَوْ سَبَبْتُهُ، أَوْ جَلَدْتُهُ، فَاجْعَلْهَا لَهُ كَفَّارَةً، وَقُرْبَةً، تُقَرِّبُهُ بِهَا إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) رواه البخاري (6361)، ومسلم (2601)واللفظ له.

هذه الصيغة الظاهر من سياقها أنها من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وليس من صيغ دعوة الظالم لمن ظلمه؛ لأمور:

الأمر الأول:

أن هذا مما شارط النبي صلى الله عليه وسلم عليه ربَّ العزة تبارك وتعالى.

فعند مسلم (2600) عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَانِ فَكَلَّمَاهُ بِشَيْءٍ، لَا أَدْرِي مَا هُوَ فَأَغْضَبَاهُ، فَلَعَنَهُمَا، وَسَبَّهُمَا، فَلَمَّا خَرَجَا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ أَصَابَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا، مَا أَصَابَهُ هَذَانِ.

قَالَ: (وَمَا ذَاكِ؟)

قَالَتْ: قُلْتُ: لَعَنْتَهُمَا وَسَبَبْتَهُمَا.

قَالَ: (أَوَ مَا عَلِمْتِ مَا شَارَطْتُ عَلَيْهِ رَبِّي؟ قُلْتُ: اللهُمَّ! إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَأَيُّ الْمُسْلِمِينَ لَعَنْتُهُ، أَوْ سَبَبْتُهُ فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَأَجْرًا).

قال أبو العباس القرطبي رحمه الله تعالى:

" فدعا الله تعالى، ورغب إليه في أنه: إن وقع منه شيء من ذلك لغير مستحق في ألا يفعل بالمدعو عليه مقتضى ظاهر ذلك الدعاء، وأن يعوِّضه من ذلك مغفرة لذنوبه ورفعة في درجاته، فأجاب الله تعالى طلبة نبيه صلى الله عليه وسلم ووعده بذلك، فلزم ذلك بوعده الصدق وقوله الحق، وعن هذا عبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( شارطت ربي)، و( شرط علي ربي )، و( اتخذت عنده عهدا لن يخلفنيه )... " انتهى من"المفهم" (6 / 584).

وهذا الاشتراط واتخاذ العهد هو أمر لا يتأتى لغير النبي صلى الله عليه وسلم كما هو معلوم.

الأمر الثاني:

أن الظالم لا يمكنه أن يقيس نفسه على النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الدعاء؛ لأن ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس ظلما؛ وإنما هو اجتهاد منه غضبا للحق، وليس انتصارا لنفسه.

قال أبو العباس القرطبي رحمه الله تعالى:

" فإن قيل: فكيف يجوز أن يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم لعن أو سب، أو جلد لغير مستحقه، وهو معصوم من مثل ذلك في الغضب والرضا؛ لأنَّ كل ذلك محرم وكبيرة، والأنبياء معصومون عن الكبائر، إما بدليل العقل، أو بدليل الإجماع، كما تقدَّم؟

قلت: قد أشكل هذا على العلماء، وراموا التخلص من ذلك بأوجه متعددة، أوضحها وجه واحد، وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يغضب لما يرى من المغضوب عليه من مخالفة الشرع، فغضبه لله تعالى، لا لنفسه، فإنَّه ما كان يغضب لنفسه، ولا ينتقم لها، وقد قررنا في الأصول: أن الظاهر من غضبه: تحريم الفعل المغضوب من أجله.

وعلى هذا؛ فيجوز له أن يؤدب المخالف له باللعن والسب والجلد والدعاء عليه بالمكروه، وذلك بحسب مخالفة المخالف، غير أن ذلك المخالف قد يكون ما صدر منه فلتة أوجبتها غفلة، أو غلبة نفس، أو شيطان، وله فيما بينه وبين الله تعالى عمل خالص، وحال صادق، يدفع الله عنه بسبب ذلك أثر ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم له من ذلك القول أو الفعل. وعن هذا عبّر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل، أن تجعلها له طهورا )..." انتهى من"المفهم"(6/584).

وقال النووي رحمه الله تعالى:

" فإن قيل: كيف يدعو على من ليس هو بأهل للدعاء عليه أو يسبه أو يلعنه ونحو ذلك؟

فالجواب: ما أجاب به العلماء ومختصره وجهان:

أحدهما: أن المراد ليس بأهل لذلك عند الله تعالى وفي باطن الأمر، ولكنه في الظاهر مستوجب له، فيظهر له صلى الله عليه وسلم استحقاقه لذلك بأمارة شرعية، ويكون في باطن الأمر ليس أهلا لذلك، وهو صلى الله عليه وسلم مأمور بالحكم بالظاهر والله يتولى السرائر.

والثاني: أن ما وقع من سبه ودعائه ونحوه: ليس بمقصود؛ بل هو مما جرت به عادة العرب في وصل كلامها بلا نية كقوله: ( تربت يمينك )، (وعقرى)، (حلقى)، وفي هذا الحديث: ( لا كبرت سنك)، وفي حديث معاوية: (لا أشبع الله بطنه)، ونحو ذلك، لا يقصدون بشيء من ذلك حقيقة الدعاء، فخاف صلى الله عليه وسلم أن يصادف شيء من ذلك إجابة، فسأل ربه سبحانه وتعالى ورغب إليه في أن يجعل ذلك رحمة وكفارة وقربة وطهورا وأجرا " انتهى من "شرح صحيح مسلم" (16 / 152).

الأمر الثالث:

أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين للظالم سبيل الخروج من المظالم، وهو بطلب العفو من المظلوم، فإن عجز عن ذلك أحسن إليه بالدعاء.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ) رواه البخاري (2449).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" ومَن ظلم إنساناً فقذفه أو اغتابه أو شتمه ثم تاب قبِل الله توبته، لكن إن عرف المظلومُ مكَّنه من أخذ حقه، وإن قذفه أو اغتابه ولم يبلغه ففيه قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد: أصحهما أنه لا يعلمه أني اغتبتك، وقد قيل : بل يحسن إليه في غيبته كما أساء إليه في غيبته؛ كما قال الحسن البصري : كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته " انتهى. "مجموع الفتاوى" (3/291).

وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم:(350119). 

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب