الخميس 20 جمادى الأولى 1446 - 21 نوفمبر 2024
العربية

هل أحاديث فضل العلم تشمل العلم الدنيوي؟

381092

تاريخ النشر : 11-11-2022

المشاهدات : 19755

السؤال

أريد مناقشة قول العلماء إن الآيات والأحاديث التي وردت في فضل العلم إنما هي في العلم الشرعي، اعتقد إن العلماء في حاجة لمراجعة هذه المسألة؛ لأن الإنسان كلما زاد علما دنيويا ودينيا كلما زادت معرفته بالخالق والإيمان به سبحانه وتعالى، فمثلا علم الطب يجعل الإنسان أكثر يقينا بقدرة الخالق، فهو علم يهتم بتفاصيل دقيقة متعلقة بجسم الإنسان تزيد إيمان المسلم، أقر إن العلوم الشرعية هي الأفضل، ولكنها ليست فقط ما يزيد الإيمان بربه، أتحدث عن تجربة شخصية، فسبب دراستي للطب وما اطلعت بسببه على قدرة الله تعالى في خلق الإنسان، أصبحت أجمع بين دراستي للطب ودراستي للعلوم الشرعية، فآمل مراجعة هذه المسألة.

الحمد لله.

أولا:

المقصود بالعلم الذي جاءت النصوص بمدحه ورفعة أهله

المقصود أصالة بالعلم الذي جاءت النصوص بمدحه ورفعة ثواب أهله وأنه ميراث النبوة: العلم الشرعي.

فقول النبي صلى الله عليه وسلم: مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضَاءً لِطَالِبِ الْعِلْمِ ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ، حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا ، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ رواه الترمذي (2682)، وأبو داود (3641)، وابن ماجه (223)، والحديث صححه الألباني في "صحيح الترمذي".

المقصود به العلم الشرعي، وهو الذي ورّثه الأنبياء، ومعلوم أنهم لم يورثوا علوم الطب والهندسة والزراعة ونحو ذلك.

قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله :"العلم يطلق على أشياء كثيرة، ولكن عند علماء الإسلام المراد بالعلم هو : العلم الشرعي , وهو المراد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عند الإطلاق " انتهى من "مجموع فتاوى ابن باز" (2/302).

وهذا لا يعني أن العلم النافع كالطب، لا يزيد الإيمان، أو لا يثاب فاعله إذا حسنت نيته.

بل بعض العلوم كالطب من فروض الكفايات، فمن قام بها ونوى نفع الناس أثيب.

جاء في فتاوى اللجنة الدائمة:"كل علم ديني مع وسائله التي تعين على إدراكه، داخل فيما يرفع الله - من علمه وعمل به، مخلصا له - عنده درجات ، وأنه مقصود بالقصد الأول.

وكل علم دنيوي تحتاجه الأمة، وتتوقف عليه حياتها، كالطب والزراعة والصناعة ونحوها، داخل أيضا إذا حسنت النية، وأراد به متعلمه، والعامل به، نفع الأمة الإسلامية ودعمها ، ورفع شأنها ، وإغناءها عن دول الكفر والضلال، لكن بالقصد الثاني التابع، ودرجات كل متفاوتة تبعا لمنزلة ذلك من الدين، وقوته في النفع ودفع الحاجة " انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة" (12/77).

ثانيا:

التفكر في خلق الله يزيد الإيمان، وهذه العلوم يعظم فيها مجال التفكر، للوقوف على دقائق وتفاصيل خلق الإنسان، أو خلق الأرض والنبات والحيوان.

قال تعالى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَالذاريات/21.

وقال: أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ الغاشية/17- 20.

وقال سبحانه: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ فصلت/53.

لكن ينبغي أن نكون صادقين، واقعيين؛ فإن أكثر من انشغل بهذه العلوم، ثم امتهنها؛ إنما ينشغل بـ"المهنة" ومشكلاتها، ومتطلباتها، عن "حقيقة العلم"، وما يمكن أن يفتحه من أبواب المعارف الإيمانية؛ حتى إنه لا يكاد يجد وقتا، ولا بالا صالحا للتفكر!!

ثالثا:

الطب من العلوم الشريفة

الطب من أشرف العلوم بعد علم الشريعة، لما فيه من حفظ الأبدان.

روى الإمام ابن أبي حاتم الرازي في "آداب الشافعي ومناقبه" ص 244 عن الرَّبِيع بْن سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ، يَقُولُ: "إِنَّمَا الْعِلْمُ عِلْمَانِ: عِلْمُ الدِّينِ، وَعِلْمُ الدُّنْيَا، فَالْعِلْمُ الَّذِي لِلدِّينِ هُوَ: الْفِقْهُ، وَالْعِلْمُ الَّذِي لِلدُّنْيَا هُوَ: الطِّبُّ. وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الشِّعْرِ وَنَحْوِهِ، فَهُوَ عَنَاءٌ أَوْ عَيْبٌ".

وروى عنه قوله: "لا تَسْكُنَنَّ بَلَدًا لا يَكُونُ فِيهِ عَالِمٌ يُفْتِيكَ عَنْ دِينِكَ، وَلا طَبِيبٌ يُنْبِئُكَ عَنْ أَمْرِ بَدَنِكَ" انتهى.

ونقل الذهبي في ترجمة الشافعي في "سير أعلام النبلاء" (10/57) عنه قوله: "لا أعلم علما بعد الحلال والحرام، أنبل من الطب، إلا أن أهل الكتاب قد غلبونا عليه.

قال حرملة: كان الشافعي يتلهف على ما ضيع المسلمون من الطب، ويقول: ضيعوا ثلث العلم، ووكلوه إلى اليهود والنصارى" انتهى.

والطبيب إن حسنت نيته أثيب ثوابا عظيما؛ لأن عمله يدخل في الإحسان، وتفريج الكرب، ونفع الناس، مع الصبر، والبذل.

قال تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ آل عمران/134.

وقال: هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ الرحمن /60.

وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ ... رواه مسلم (2699).

وقال صلى الله عليه وسلم: (أحب العباد إلى الله تعالى أنفعهم لعياله) أخرجه عبد الله بن أحمد في "زوائد الزهد"، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع".

وقال صلى الله عليه وسلم:  أحبُّ الناسِ إلى الله أنْفَعُهم لِلنَّاسِ، وأحبُّ الأعْمالِ إلى الله عزَّ وجلَّ سرورٌ تُدْخِلُه على مسلمٍ، تَكْشِفُ عنه كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عنه دَيْناً، أوْ تَطْرُدُ عنه جُوعاً، ولأَنْ أَمْشي مَعَ أخٍ في حاجَة؛ أحَبُّ إليَّ مِنْ أنْ أعْتَكِفَ في هذا المسجِدِ -يعني مسجدَ المدينَةِ- شَهْراً، ومَنْ كَظَم غيْظَهُ- ولو شاءَ أنْ يُمْضِيَهُ أمْضاهُ-؛ ملأَ الله قلْبَهُ يومَ القيامَةِ رِضاً، ومَنْ مَشى مَع أخيه في حاجَةٍ حتى يَقْضِيَها له؛ ثَبَّتَ الله قدَميْه يومَ تزولُ الأقْدامُ  رواه ابن أبي الدنيا في "قضاء الحوائج"، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع".

وعلى ذلك؛ فحتى إذا انشغل الطبيب بمهنته، ولم يبق عنده فرصة لتدبر دقائق الطب والتشريح، ولم ينتقل من ذلك إلى المشاهد الإيمانية؛ فبحسبه أنه امتهن مهنة مباحة، شريفة في نفسها، متى راقب الله تعالى، وأدى أمانته وما يجب عليه فيها، واحتسب النية الصالحة، ورفق بالعباد، وخفف عنهم، ولم يشق عليهم في مال، ولا بدن؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:  الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ  رواه الترمذي (1924)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب