الخميس 20 جمادى الأولى 1446 - 21 نوفمبر 2024
العربية

فعل الذنوب اغترارًا بعفو الله!

386131

تاريخ النشر : 25-03-2023

المشاهدات : 4079

السؤال

محافظ على صلاته، بار بوالديه، ويحفظ لكتاب الله تعالى، ومجتهد في السنن، ولكنه يفعل ذنوب، ويحتج بقول الله تعالى: وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم ، فهل فعله صحيح؟

الجواب

الحمد لله.

أولًا:

على الإنسان أن يبتعد عن الذنوب والمعاصي وهذا من إيمانه بالله تبارك وتعالى، وقد حذر الله سبحانه من الذنوب والمعاصي، ورتب عليها آثارًا كثيرة.

وقد حذرنا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التهاون في صغائر الذنوب، فقال:

(إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْه) . رواه أحمد (22302) من حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وقال الحافظ : إسناده حسن اهـ .

(وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ) هي الصغائر.

وروى أحمد (3803) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ) وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلا : (كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلاةٍ، فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ فَيَجِيءُ بِالْعُودِ، وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ، حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا، فَأَجَّجُوا نَارًا، وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا) حسنه الألباني في "صحيح الجامع" (2687).

وقد ذكر العلماء أن الإصرار على الصغيرة يحولها لكبيرة، نسأل الله العافية.

قال النووي "في شرح مسلم" :

"قَالَ الْعُلَمَاء رَحِمَهُمْ اللَّه : وَالإِصْرَار عَلَى الصَّغِيرَة يَجْعَلهَا كَبِيرَة، وَرُوِيَ عَنْ عُمَر وَابْن عَبَّاس وَغَيْرهمَا رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ: لا كَبِيرَة مَعَ اِسْتِغْفَارٍ، وَلا صَغِيرَة مَعَ إِصْرَار.

مَعْنَاهُ : أَنَّ الْكَبِيرَة تُمْحَى بِالاسْتِغْفَارِ , وَالصَّغِيرَة تَصِير كَبِيرَة بِالإِصْرَارِ".

وقال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (15/293):

" فَإِنَّ الزِّنَا مِنْ الْكَبَائِرِ، وَأَمَّا النَّظَرُ وَالْمُبَاشَرَةُ فَاللَّمَمُ مِنْهَا مَغْفُورٌ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى النَّظَرِ أَوْ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ صَارَ كَبِيرَةً ، وَقَدْ يَكُونُ الإِصْرَارُ عَلَى ذَلِكَ أَعْظَمَ مِنْ قَلِيلِ الْفَوَاحِشِ ، فَإِنَّ دَوَامَ النَّظَرِ بِالشَّهْوَةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ الْعِشْقِ وَالْمُعَاشَرَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ، قَدْ يَكُونُ أَعْظَمَ بِكَثِيرِ مِنْ فَسَادِ زِنَا لا إصْرَارَ عَلَيْهِ.

وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ فِي الشَّاهِدِ الْعَدْلِ : أَنْ لا يَأْتِيَ كَبِيرَةً وَلا يُصِرَّ عَلَى صَغِيرَةٍ . . . بَلْ قَدْ يَنْتَهِي النَّظَرُ وَالْمُبَاشَرَةُ بِالرَّجُلِ إلَى الشِّرْكِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّه البقرة/165 . . . وَالْعَاشِقُ الْمُتَيَّمُ يَصِيرُ عَبْدًا لِمَعْشُوقِهِ مُنْقَادًا لَهُ أَسِيرَ الْقَلْبِ لَهُ".

انظر الجواب رقم: (47748).

ثانيًا:

ذكر الإمام ابن القيم في كتابه المهم (الداء والدواء) أن من الأمور المهمة أن يحذر الإنسان من الاغترار بعفو الله تعالى ، «فإنّ العبد يعرف أنّ المعصية والغفلة من الأسباب المضرة له في دنياه وآخرته، ولا بدَّ، ولكن تغالطه نفسه بالاتكال على عفو الله ومغفرته تارة، وبالتسويف بالتوبة تارة، وبالاستغفار باللسان تارة، وبفعل المندوبات تارة، وبالعلم تارة، وبالاحتجاج بالقدر تارة، وبالاحتجاج بالأشباه والنظراء والاقتداء بالأكابر تارة.

وكثير من الناس يظن أنه لو فعل ما فعل، ثم قال: "أستغفر الله" زال أثر الذنب، وراح هذا بهذا!

وقال لي رجل من المنتسبين إلى الفقه: أنا أفعل ما أفعل، ثم أقول: سبحان الله وبحمده مائة مرة، وقد غفر ذلك أجمعه".

وذكر شيئًا من مغالطاتهم، وكلامهم، ثم قال: «وهذا الضرب من الناس قد تعلّق بنصوص الرَّجاء، واتّكل عليها، وتعلق بها بكلتا يديه. وإذا عوتب على الخطايا والانهماك فيها سرد لك ما يحفظه من سعة رحمة الله ومغفرته ونصوص الرجاء".

وقال : « وكاتكال بعضهم على قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا. وهذا أيضًا من أقبح الجهل، فإن الشرك داخل في هذه الآية، فإنّه رأس الذنوب وأساسها، ولا خلاف أنّ هذه الآية في حق التائبين، فإنّه يغفر كل ذنب للتائب، أي ذنب كان. ولو كانت الآية في حق غير التائبين لبطلت نصوص الوعيد كلّها ...

وهذا إنما أُتِيَ صاحبُه من قلّة علمه وفهمه، فإنه سبحانه ههنا عمّم وأطلق؛ فعُلِمَ أنه أراد التائبين. وفي سورة النساء خصّص وقيّد، فقال: إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 48]، فأخبر سبحانه أنه لا يغفر الشرك، وأخبر أنه يغفر ما دونه. ولو كان هذا في حقّ التائب لم يفرّق بين الشرك وغيره.

.. فعلم أنّ جعل الشيء سببًا للتكفير لا يمنع أن يتساعد هو وسبب آخر على التكفير، ويكون التكفير مع اجتماع السببين أقوى وأتم منه مع انفراد أحدهما، وكلّما قويت أسباب التكفير كان أقوى وأتم وأشمل».

الداء والدواء : (1/ 36-48).

ولله ما ذكره رحمه الله بقوله : " وكيف يكون محسنَ الظن بربه من هو شارد عنه، حالّ مرتحل في مساخطه وما يغضبه، متعرض للعنته، قد هان حقّه وأمره عليه فأضاعه، وهان نهيه عليه فارتكبه، وأصرَّ عليه!

وكيف يحسن الظن به من بارزه بالمحاربة، وعادى أولياءه، ووالى أعداءه، وجحد صفات كماله، وأساء الظن بما وصف به نفسه ووصفَتْه به رُسُله، وظن بجهله أن ظاهر ذلك ضلال وكفر؟.

وكيف يحسن الظنّ به من يظن أنه لا يتكلّم، ولا يأمر، ولا ينهى، ولا يرضى، ولا يغضب؟

وقد قال تعالى في حق من شكّ في تعلّق سمعه ببعض الجزئيات، وهو السرّ من القول: وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) [فصلت: 23]، فهؤلاء لما ظنّوا أن الله سبحانه لا يعلم كثيرًا مما يعملون، كان هذا إساءةً لظنهم برئهم، فأرداهم ذلك الظن.

وهذا شأن كل من جحد صفات كماله ونعوت جلاله ووَصَفه بما لا يليق به. فإذا ظنّ هذا أنه يُدخِلُه الجنةَ كان هذا غرورًا وخداعًا من نفسه، وتسويلًا من الشيطان، لا إحسانَ ظن بربّه.

فتأمَّلْ هذا الموضع، وتأمَّلْ شدة الحاجة إليه! وكيف يجتمع في قلب العبد تيقُّنُه بأنّه ملاقٍ الله، وأنّ الله يسمع كلامه، ويرى مكانه، ويعلم سرّه وعلانيته، ولا يخفى عليه خافية من أمره، وأنه موقوف بين يديه ومسؤول عن كل ما عمل، وهو مقيم على مساخطه، مضيّع لأوامره، معطّل لحقوقه. وهو مع هذا محسنٌ الظنَّ به؟ وهل هذا إلا من خدع النفوس وغرور الأماني؟».

ثالثًا :

«ومن تأمل هذا الموضع حقّ التأمل علِمَ أنّ‌‌ حسنَ الظن بالله هو حسنُ العمل نفسه، فإنّ العبد إنما يحمله على حسن العمل، حسنُ ظنّه بربه أن يجازيه على أعماله، ويثيبه عليها، ويتقبّلها منه.

 فالذي حمله على العمل حسنُ الظن، وكلّما حسُن ظنُّه حسُن عملُه، وإلا فحسنُ الظن مع اتباع الهوى عجز، كما في الترمذي والمسند من حديث شدّاد بن أوس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: "الكيّس من دان نفسَه، وعمِل لما بعد الموت، والعاجز من أتبعَ نفسَه هواها، وتمنّى على «الله".

وبالجملة، فحسن الظن إنّما يكون مع انعقاد أسباب النجاح، وأما مع انعقاد أسباب الهلاك، فلا يتأتّى إحسان الظن.

فإن قيل: بل يتأتى ذلك، ويكون مستندُ حسن الظن سعةَ مغفرة الله ورحمته وعفوه وجوده، وأنّ رحمته سبقت غضبه، وأنه لا تنفعه العقوبة ولا يضرّه العفو.

قيل: الأمرُ هكذا، واللهُ فوق ذلك، وأجلّ وأكرم وأجوَد وأرحم، ولكن إنما يضع ذلك في محله اللائق به، فإنه سبحانه موصوف بالحكمة، والعزة، والانتقام وشدة البطش، وعقوبة من يستحق العقوبة.

فلو كان معوَّلُ حُسنِ الظنّ على مجرد صفاته وأسمائه لاشترك في ذلك البرّ والفاجر، والمؤمن والكافر، ووليه وعدوه. فما ينفع المجرمَ أسماؤه وصفاته، وقد باء بسخطه وغضبه، وتعرّض للعنته، وأوضعَ في محارمه، وانتهك حرماته؟

بل حسن الظن ينفع من تاب، وندم، وأقلع، وبدّل السيئة بالحسنة، واستقبل بقية عمره بالخير والطاعة، ثم حسّن الظنّ. فهذا حسن الظن، والأول غرور! والله المستعان»

"الجواب الكافي"(1/ 48 - 49).

وانظر الجواب رقم (272434).

رابعًا :

أما قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ‌لَهُمْ ‌مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ  المائدة:/9.

فإن الآية تدل على أهمية الإيمان بالله تعالى والعمل الصالح، ولا تدل على الاغترار بعفو الله، بل إن المؤمن الصالح إن أخطأ تاب من قريب، حينئذ يتحقق إيمانه .

وقد جاءت الآية: "عقب أمرهم بالتقوى بذكر ما وعد الله به المتقين ترغيبًا في الامتثال".

"التحرير والتنوير" (6/ 136).

بل قال بعض العلماء إن الآية في التقصير في الطاعة ، قال ابن عقيلة : "فإن قلت: كيف قال تعالى: وعد الله ‌الذين ‌أمنوا ‌وعملوا ‌الصالحات ‌لهم ‌مغفرة وأجر عظيم المائدة/9، والغفران إنما يكون في عمل السيئات لا في عمل الحسنات؟

الجواب: لما كانت أعمال الحسنات يدخلها التقصير (من عدم التوجه الكامل) في الطاعة، ودخول الرياء والغفلة، فكان قوله تعالى: لهم «مغفرة، أي: ستر ونجاوز عن ما وقع من تقصير في الطاعة، وقوله: وأجر عظيم أي جزاء على الطاعة».

"الزيادة والإحسان في علوم القرآن" (6/ 353-354).

فليحذر صاحبك من الاغترار بعفو الله، فإنه لا يعلم متى يأتيه الأجل، وليقبل على طاعة الله، فإنها خير له في دينه ودنياه.

وينظر جواب السؤال رقم:(228924)، ورقم:(307430). 


والله أعلم

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب