الحمد لله.
أولا:
المال من الخير والفضل الدنيوي الذي وضعه الله تعالى في هذه الأرض.
فلا حرج على العبد أن يسأل الله تعالى أن يرزقه من هذا الخير، ويكثر ماله، كما تدل على هذا أدلة شرعية كثيرة.
فمن ذلك: عموم قول الله تعالى: ( وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) النساء /32.
وقوله تعالى: ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) البقرة /201.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" فجمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا، وصرفت كل شر، فإن الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي، من عافية، ودار رحبة، وزوجة حسنة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هنيء، وثناء جميل، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين، ولا منافاة بينها، فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا … " انتهى. "تفسير ابن كثير" (2 / 122).
وروى البخاري (6344)، ومسلم (2480) عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قالَ: ( قالَتْ أُمِّي: يَا رَسُولَ اللَّهِ، خَادِمُكَ أَنَسٌ، ادْعُ اللَّهَ لَهُ. قالَ: اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ ).
وروى الإمام أحمد في "المسند" (29 / 298 ): عن عَمْرَو بْن الْعَاصِ قال: بَعَثَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: خُذْ عَلَيْكَ ثِيَابَكَ وَسِلَاحَكَ، ثُمَّ ائْتِنِي! فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَصَعَّدَ فِيَّ النَّظَرَ ثُمَّ طَأْطَأَهُ، فَقَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَكَ عَلَى جَيْشٍ فَيُسَلِّمَكَ اللهُ وَيُغْنِمَكَ، وَأَزْعبُ لَكَ مِنَ الْمَالِ زَعْبَةً صَالِحَةً. قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَسْلَمْتُ مِنْ أَجْلِ الْمَالِ، وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ، وَأَنْ أَكُونَ مَعَ رَسُولِ اللهِ. فَقَالَ: (يَا عَمْرُو، نِعْمَّا بِالْمَالِ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ).
وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط مسلم" انتهى.
وقد وجد في النبيين عليهم السلام، وفي الصالحين: من كان من أهل الغنى والملك، كحال داود وسليمان عليهما السلام، وكحال بعض كبار الصحابة وأفاضلهم رضوان الله عليهم.
ثانيا:
مما سبق يتبين أن كثرة المال في ذاته ليس مذموما، ولا يعد صاحبه نازل المرتبة؛ لأن الغنى حال يعرض للعبد، لا يتعلق بذاته فضل أو نقص، بل أساس التفاضل هو التقوى.
قال الله تعالى: ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) الحجرات/13.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" فإن اللّه سبحانه لم يفضل بين الناس بالفقر والغنى، كما لم يفضّل بالعافية والبلاء، وإنما فَضّل بالتقوى، كما قال تعالى: ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) " انتهى. "عدة الصابرين" (ص297).
فالشأن متعلق بكيفية جمع الشخص لهذا المال، ومقصده من جمعه، وطريقة صرفه له.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" قال [ابن الجوزي]: وكلّ ما يراد لغيره، ولا يراد لعينه: ينبغي أن يضاف إلى مقصوده، فبه يظهر فضله. فالمال ليس محذورا لعينه؛ بل لكونه قد يعوق عن اللّه، وكذا العكس " انتهى. "فتح الباري" (11 / 275).
وعلى هذا؛ فمن طلب المال والغنى من حله، و لم يقصد به التكاثر والتفاخر واللهو، بل يطلبه بقصد أن يكفي نفسه وأهله، ويعين غيره، وينفق في سبل الخير، وينافس فيها، ولا يبخل ولا يسرف؛ فطلب الغنى بهذا القصد هو طلب محمود مأجور صاحبه على نيته، ويرتفع به إن شاء الله تعالى إلى المنازل الفاضلة.
ويدل لهذا حديث عبد الله بن مسْعُودٍ، قالَ: قالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ( لا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتاهُ اللهُ مالًا فَسُلِّطَ على هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ، وَرَجُلٌ آتاهُ اللَّهُ الحِكْمَةَ فهو يَقْضِي بها وَيُعَلِّمُها ) رواه البخاري (73)، ومسلم (816).
قال ابن بطال رحمه الله تعالى:
" قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتاهُ اللهُ مالًا فَسُلِّطَ على هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ ) . فبيّن أنه لا شيء أرفع من هاتين الحالتين، وهو المبين عن الله تعالى معنى ما أراد، ولو كان من هذه حاله مسبوقا في الأخرى، لما حضّ النبي صلى الله عليه وسلم على أن يتنافس في عمله " انتهى. "شرح صحيح البخاري" (10 / 172)
وقال رحمه الله تعالى:
"وفيه من الفقه أن الغني إذا قام بشروط المال، وفعل فيه ما يرضي الله، فهو أفضل من الفقير الذي لا يقدر على مثل حاله " انتهى. "شرح صحيح البخاري" (1 / 158).
وكما في حديث أَبِي هُرَيْرةَ رضي الله عنه، قالَ: ( جاءَ الفُقَراءُ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِنَ الأَمْوالِ بِالدَّرَجاتِ العُلى والنَّعِيمِ المُقِيمِ؛ يُصَلُّونَ كَما نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَما نَصُومُ، وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوالٍ، يَحُجُّونَ بها وَيَعْتَمِرُونَ، وَيُجاهِدُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ. قال: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ إِنْ أَخَذْتُمْ، أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ، وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرانَيْهِ، إلَّا مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ؟ تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثًا وثَلاثِينَ … ) رواه البخاري (843) ومسلم (595)، وفي رواية لمسلم: " فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الْأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا، فَفَعَلُوا مِثْلَهُ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ).
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى:
" قال أبو القاسم بن أبى صفره: فيه نص على فضل الغنى، نصا لا تأويلا، إذا استوت أعمالهم بما فرض الله عليهم، فللغنى حينئذ فضل أعمال البر المتعلقة بالأموال، بما لا سبيل للفقير إليها.
وإنما يفضل الفقر والغنى، إذا فَضَل صاحبَه بالعمل، فهذا ظاهر معنى قوله: ( فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ )" انتهى. "إكمال المعلم" (2 / 546).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" وما ورد من التّرغيب في تحصيله وإنفاقه في حقّه: فمحمول على من وثق بأنّه يجمعه من الحلال الّذي يأمن خطر المحاسبة عليه، فإنّه إذا أنفقه، حصل له ثواب ذلك النّفع المتعدّي، ولا يتأتّى ذلك لمن لم يحصّل شيئا كما تقدّم شاهده في حديث: ذهب أهل الدّثور بالأجور. واللّه أعلم " انتهى. "فتح الباري" (3 / 276).
لكن المال له فتنته؛ فمن خشي منها، ورأى في نفسه ضعفا أمام زينة الغنى، وخشي الاسراف واللهو والغفلة، فطلب لنفسه السلامة والكفاف؛ فهو على خير أيضا بحسب قصده ونيته.
لأنّ: " النفوس إذا كانت قادرة على كمال أغراضها، فلا تكاد تنصرف عنها. بخلاف ما إذا عجزت عن كمال أغراضها، فإن ذلك مما يدعوها إلى التوبة، كما يقال: من العصمة أن لا تقدر " انتهى. من "الجواب الصحيح لشيخ الإسلام ابن تيمية" (6 / 444).
فالمال والغنى مذموم لمن يقع به في طرق الغي، ويغفل به عن ذكر الله تعالى.
قال المظهري رحمه الله تعالى:
" فكذلك من حصل له مال كثير: فإن حرص على المال، ويكثر الأكل والشرب والتجمّل، فيقسو قلبه، وتتكبر نفسه، ويرى نفسه أفضل من غيره، ويحتقر الناس ويؤذيهم، ولا يخرج حقوق المال، من الزكاة وأداء الكفارات والنذور، وإطعام السائلين والأضياف، وحقوق الجار= فمن كانت هذه صفته، لا شك أن المال شرٌ له، ويبعده من الجنة، ويقرّبه من النار.
ومن أدى حقوق المال، ولا يحتقر الناس، ولا يفخر عليهم، ولا يشتغل بجمع المال بحيث تفوت عنه طاعة، ويحسن إلى الناس= فماله خير له، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( نعم الْمَال الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ ).
فإذا عرفت هذا؛ فقد عرفت أن الخير والشر لا يحصلان للرجل من عين المال، بل نفس الرجل هي التي تصرف المال فيما فيه خير له، أو فيما فيه شرٌ له " انتهى. "المفاتيح في شرح المصابيح" (5 / 277).
وكذا إن رأى أن يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقتصر على كفايته، ونفسه تصبر على ذلك، ولا تتطلع إلى ما في أيدي الناس، ويصرف غالب جهده ووقته في العلم والعبادة والدعوة واعانة إخوانه ببدنه، فهو أيضا على أفضل حال.
فقد ثبت أن النبي صلى الله عله وسلم كان يدعو بالكفاف، ولم يدع لنفسه بكثرة المال والثراء.
روى البخاري (6460)، ومسلم (1055): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا ) واللفظ لمسلم.
وجعل ذلك علامة الفلاح.
روى مسلم (1054): عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ ).
قال الطيبي رحمه الله تعالى:
" وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: إرشاد لأمته، كلَّ الإرشاد؛ إلى أن الزيادة على الكفاف، لا ينبغي أن يتعب الرجل في طلبه؛ لأنه لا خير فيه.
وحكم الكفاف يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال …
ومنهم من يكون كثير العيال، فكفافه ما يسد رمق عياله. ومنهم من يقل عياله فلا يحتاج إلى طلب الزيادة وكثرة الاشتغال.
فإذن قدر الكفاف: غير مقدر، ومقداره غير معين.
إلا أن المحمود: ما به القوة على الطاعة، والاشتغال به على قدر الحاجة " انتهى. "شرح المشكاة" (10 / 3279).
وما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم من الغنى، كما روى الإمام مسلم (2721): عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى، وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى ).
أي أن يكون له ما يكفيه ويغني قلبه، كما فسّره حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، أنّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: ( لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ ) رواه البخاري (6446) ومسلم (1051).
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" … الغنى عنده صلى الله عليه وسلم غنى النفس، ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة أنّه قال: ( لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، إِنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ ).
وقد جعله اللّه عز وجل غنيا وعدّده عليه فيما عدّده من نعمة، فقال: ( وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى )، ولم يكن غناه صلى الله عليه وسلم أكثر من إيجاد قوت سنة لنفسه وعياله وكان الغنى كلّه في قلبه ثقة بربّه وسكونا إِلى أنّ الرّزق مقسوم يأتيه منه ما قدّر له " انتهى. "الاستذكار" (8 / 140).
ويتبييّن مما سبق:
أن المال من الخير والفضل الذي وضعه الله تعالى في الأرض، كما سماه الله في كتابه، فلا حرج على المسلم في أن يدعو الله تعالى ويسأله بأن يكثر ماله ويوفقه للشكر والتصدق، وأن لا يشغل به عن آخرته، فهذا أمر فاضل، وله أسوة في بعض الأنبياء عليهم السلام وجملة من الصالحين.
ومن خشي على نفسه فتنة المال، أو قصد التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاكتفاء بما فيه الكفاية ونفسه تصبر على هذا ولا تتطلع إلى ما في أيدي الناس، ورأى صرف الجهد والوقت في العلم والعبادة، فهو على خير أيضا، وله أسوة في نبينا صلى الله عليه وسلم.
وإنما النقص والذم، يلحقان الغني والمكتفي والفقير المفرطون في تحقيق تقوى الله تعالى في أنفسهم، والمعرضون عن التنافس والتسابق بأموالهم وأبدانهم في الخيرات.
والله أعلم.
تعليق