الحمد لله.
نقل الإجماع مع ثبوت الخلاف يأتي على صور:
الأولى:
أن يكون الإجماع صحيحا سابقا على الخلاف.
ومن ذلك الإجماع على تحريم المعازف، فإنه سابق على خلاف ابن حزم(384-456هـ)، فقد حكاه أبو بكر الآجري(280-360هـ).
قال ابن رجب رحمه الله: "سماع آلات الملاهي كلها، وكل منها: محرم بانفراده، وقد حكى أبو بكر الآجري وغيره إجماع العلماء على ذلك" انتهى من "نزهة الأسماع في مسألة السماع" ص25.
وقال رحمه الله في "فتح الباري" (8/436): " وأما استماع آلات الملاهي المطربة المتلقاة من وضع الأعاجم، فمحرم مجمع على تحريمه، ولا يعلم عن أحد منه [كذا] الرخصة في شيء من ذَلِكَ، ومن نقل الرخصة فيه عن إمام يعتد به فقد كذب وافترى" انتهى.
فلا يلتفت لدعوى إباحته قبل ابن حزم.
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم:(222730).
الثانية:
أن يكون الإجماع صحيحا، والمخالف لا يعتد به في مخالفة الإجماع، كالإجماع على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل، وخالف في ذلك ابن علية والأصم.
قال ابن قدامة في "المغني"(8/402): "؛ قال: (ودية الحرة المسلمة، نصف دية الحر المسلم) قال ابن المنذر، وابن عبد البر: أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل.
وحكى غيرهما عن ابن علية، والأصم، أنهما قالا: ديتها كدية الرجل؛ لقوله عليه السلام: (في نفس المؤمنة مائة من الإبل) وهذا قول شاذ، يخالف إجماع الصحابة، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن في كتاب عمرو بن حزم: (دية المرأة على النصف من دية الرجل) وهي أخص مما ذكروه، وهما في كتاب واحد، فيكون ما ذكرنا مفسرا لما ذكروه، مخصصا له" انتهى.
ومن ذلك الإجماع على كروية الأرض، وينظر: جواب السؤال رقم:(118698).
ومن ذلك الإجماع على تحريم المعازف عند جماعة من أهل العلم فإنهم لا يعتدون بمخالفة ابن حزم للإجماع.
قال ابن الصلاح رحمه الله: " وَهَكَذَا لَا يعْتد بِخِلَاف من خَالف فِيهِ من الظَّاهِرِيَّة، لتقاصرهم عَن دَرَجَة الِاجْتِهَاد فِي أَحْكَام الشَّرِيعَة ، فَإِذًا هَذَا السماع غير مُبَاح بِإِجْمَاع أهل الْحل وَالْعقد من الْمُسلمين" انتهى من "فتاوى ابن الصلاح" (2/5019).
وقال ابن حجر الهيتمي في "كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع"، ص134: " وابن حزمٍ هذا رجلٌ ظاهري لا يُعتَدُّ بخلافه، ولا يُعوَّل عليه كما صرَّح به الأئمَّة" انتهى.
ومن العلماء من يعتد بمخالفة ابن حزم ، فلا يحكم بانعقاد الإجماع مع مخالفته . وليس هذا موضع بسط الخلاف في هذه المسألة ، وإنما المقصود هنا هو ذكر أسباب حكاية بعض العلماء الإجماع مع وجود خلاف.
الثالثة:
أن يكون مذهب العالم الذي نقل الإجماع: أن مخالفة الواحد والاثنين، لا تقدح في صحة الإجماع ، وإلى هذا ذهب الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله ، كما هي طريقة ابن المنذر رحمه الله في كتابه الإجماع ، فإنه ينقل الإجماع، ثم يذكر أنه قد خالف في هذا فلان وفلان من العلماء، ولكنه لا يعتبر مخالفتهما ناقضة للإجماع.
إلا أن جمهور العلماء على أن الإجماع لا ينعقد إلا باتفاق جميع المجتهدين ، وأنه لو خالف واحد لم ينعقد الإجماع .
ينظر : "المستصفى" للغزالي (1/218)، "روضة الناظر" لابن قدامة (1/402).
الرابعة :
أن لا تصح دعوى الإجماع؛ لوجود الخلاف قبله، كدعوى الإجماع على أن الطلاق الثلاث بكلمة يقع ثلاثا.
قال ابن القيم رحمه الله: " وكل صحابي من لدن خلافة الصديق، إلى ثلاث سنين من خلافة عمر: كان على أن الثلاث واحدة، فتوى أو إقرارا أو سكوتا، ولهذا ادعى بعض أهل العلم أن هذا إجماع قديم، ولم تجمع الأمة ولله الحمد على خلافه، بل لم يزل فيهم من يفتي به قرنا بعد قرن، وإلى يومنا هذا.
فأفتى به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس، كما رواه حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس: " إذا قال : أنت طالق ثلاثا بفم واحد، فهي واحدة" وأفتى أيضا بالثلاث، أفتى بهذا وهذا.
وأفتى بأنها واحدة: الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، حكاه عنهما ابن وضاح، وعن علي كرم الله وجهه وابن مسعود روايتان، كما عن ابن عباس .
وأما التابعون: فأفتى به عكرمة، رواه إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عنه، وأفتى به طاوس.
وأما تابعو التابعين: فأفتى به محمد بن إسحاق، حكاه الإمام أحمد وغيره عنه، وأفتى به خلاس بن عمرو والحارث العكلي.
وأما أتباع تابعي التابعين فأفتى به داود بن علي وأكثر أصحابه، حكاه عنهم ابن المغلس وابن حزم وغيرهما، وأفتى به بعض أصحاب مالك، حكاه التلمساني في شرح تفريع ابن الجلاب قولا لبعض المالكية، وأفتى به بعض الحنفية، حكاه أبو بكر الرازي عن محمد بن مقاتل، وأفتى به بعض أصحاب أحمد، حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية عنه، قال: وكان الجد يفتي به أحيانا [ يعني جده أبا البركات ابن تيمية صاحب المحرر].
والمقصود: أن هذا القول قد دل عليه الكتاب والسنة والقياس والإجماع القديم، ولم يأت بعده إجماع يبطله، ولكن رأى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق ، وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة؛ فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم؛ ليعلموا أن أحدهم إذا أوقعه جملة، بانت منه المرأة، وحرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، نكاح رغبة يراد للدوام، لا نكاح تحليل، فإنه كان من أشد الناس فيه، فإذا علموا ذلك كفوا عن الطلاق المحرم، فرأى عمر أن هذا مصلحة لهم في زمانه.
ورأى أن ما كانوا عليه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد الصديق وصدرا من خلافته كان الأليق بهم؛ لأنهم لم يتتابعوا فيه، وكانوا يتقون الله في الطلاق، وقد جعل الله لكل من اتقاه مخرجا، فلما تركوا تقوى الله، وتلاعبوا بكتاب الله، وطلقوا على غير ما شرعه الله، ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم.
فإن الله تعالى إنما شرع الطلاق مرة بعد مرة، ولم يشرعه كله مرة واحدة، فمن جمع الثلاث في مرة واحدة، فقد تعدى حدود الله، وظلم نفسه، ولعب بكتاب الله، فهو حقيق أن يعاقب، ويلزم بما التزمه، ولا يقر على رخصة الله وسعته، وقد صعبها على نفسه، ولم يتق الله ولم يطلق كما أمره الله وشرعه له، بل استعجل فيما جعل الله له الأناة فيه، رحمة منه وإحسانا، ولبس على نفسه، واختار الأغلظ والأشد.
فهذا مما تغيرت به الفتوى لتغير الزمان، وعلم الصحابة رضي الله عنهم حسن سياسة عمر، وتأديبه لرعيته في ذلك، فوافقوه على ما ألزم به، وصرحوا لمن استفتاهم بذلك؛ فقال عبد الله بن مسعود: من أتى الأمر على وجهه فقد بُيِّن له، ومن لبس على نفسه، جعلنا عليه لبسه، والله لا تلبسون على أنفسكم ، ونتحمله عنكم، هو كما تقولون.
فلو كان وقوع الثلاث ثلاثا في كتاب الله وسنة رسوله، لكان المطلّق قد أتى الأمر على وجهه، ولما كان قد لبس على نفسه، ولَمَا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن فعل ذلك: (تلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم)؟ " انتهى من "إعلام الموقعين" (3/33-35).
وأما الزواج بنية الطلاق فلا إجماع فيه، وينظر: جواب السؤال رقم:(111841).
والقزع مكروه، حكى النووي الإجماع على كراهته.
قال النووي رحمه الله في "شرح مسلم" (14/101): " وأجمع العلماء على كراهة القزع إذا كان في مواضع متفرقة، إلا أن يكون لمداواة ونحوها. وهي كراهة تنزيه.
وكرهه مالك في الجارية والغلام مطلقا، وقال بعض أصحابه لابأس به في القصة والقفا للغلام.
ومذهبنا كراهته مطلقا، للرجل والمرأة لعموم الحديث.
قال العلماء: والحكمة في كراهته أنه تشويه للخلق، وقيل: لأنه [زي أهل الشرك] والشطارة [هم أهل الشر]، وقيل: لأنه زي اليهود، وقد جاء هذا في رواية لأبي داود" انتهى.
والله أعلم.
تعليق