الحمد لله.
لا نعلم أن عليا رضي الله عنه قد شارك في حروب الردة، ولم نقف على خبر صحيح يدل على هذا.
بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
"وجميع الحروب التي حضرها علي رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة حروب: الجمل، وصفين، وحرب أهل النهروان. والله أعلم" انتهى من "مجموع الفتاوى" (4 /493).
وإذا قدر أن عليا رضي الله عنه قد ثبت أنه لم يشارك في الحروب ضد المرتدين بسيفه؛ فليس في ذلك ما يدل على معارضته لأبي بكر رضي الله عنه، ولا مجانبته له، بل كان يشهد الصلوات معه، ويحادثه.
روى البخاري (3542) عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الحَارِثِ، قَالَ: "صَلَّى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ العَصْرَ، ثُمَّ خَرَجَ يَمْشِي، فَرَأَى الحَسَنَ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ، فَحَمَلَهُ عَلَى عَاتِقِهِ، وَقَالَ: " بِأَبِي، شَبِيهٌ بِالنَّبِيِّ لاَ شَبِيهٌ بِعَلِيٍّ " وَعَلِيٌّ يَضْحَكُ".
ولفظه عند الإمام أحمد في "المسند" (1 / 213) عَن عُقْبَة بْن الْحَارِثِ، قَالَ:
"خَرَجْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ صَلاةِ الْعَصْرِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَيَالٍ، وَعَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ يَمْشِي إِلَى جَنْبِهِ، فَمَرَّ بِحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ يَلْعَبُ مَعَ غِلْمَانٍ، فَاحْتَمَلَهُ عَلَى رَقَبَتِهِ وَهُوَ يَقُولُ:
وَابِأَبِي شِبْهُ النَّبِيِّ ... لَيْسَ شَبِيهًا بِعَلِيِّ
قَالَ: وَعَلِيٌّ يَضْحَكُ".
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" فإن علي بن أبي طالب لم يفارق الصديق في وقت من الأوقات، ولم ينقطع في صلاة من الصلوات خلفه، كما سنذكره، وخرج معه إلى ذي القصة، لما خرج الصديق شاهرا سيفه يريد قتال أهل الردة كما سنبينه قريبا " انتهى من"البداية والنهاية" (8/92).
وأما خروجه مع الصديق رضي الله عنهما إلى ذي القصة، فالذي ساقه ابن كثير من الأخبار فيها، لا تصح أسانيدها.
حيث قال رحمه الله تعالى:
"وقد روى الدارقطني من حديث عبد الوهاب بن موسى الزهري، عن مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر قال: لما برز أبو بكر إلى ذي القصة واستوى على راحلته، أخذ علي بن أبي طالب بزمامها وقال: إلى أين يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أقول لك ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: ( شم سيفك، ولا تفجعنا بنفسك )، وارجع إلى المدينة، فوالله لئن فجعنا بك لا يكون للإسلام نظام أبدا. فرجع .
هذا حديث غريب من طريق مالك.
وقد رواه زكريا الساجي من حديث عبد الوهاب بن موسى بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف الزهري أيضا، عن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: خرج أبي شاهرا سيفه راكبا على راحلته إلى وادي القصة، فجاء علي بن أبي طالب فأخذ بزمام راحلته فقال: إلى أين يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أقول لك ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: ( شم سيفك، ولا تفجعنا بنفسك ). فوالله لئن أصبنا بك لا يكون للإسلام نظام أبدا. فرجع وأمضى الجيش" انتهى من "البداية والنهاية" (9/446).
فهذه الأخبار من رواية عبد الوهاب بن موسى الزهري وهو مجهول.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
" عبد الوهاب بن موسى، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، نَكِرَة " انتهى من "المغني" (2/413).
فالذي يظهر والله أعلم أن سبب عدم خروج علي رضي الله عنه إلى تلك الحروب، راجع إلى أمرين:
الأمر الأول:
أن أبا بكر رضي الله عنه كان معظما لأمر آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فراعى حال فاطمة ابنة النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يرد أن يفجعها في زوجها بعد فقدها رضي الله عنها لأبيها صلى الله عليه وسلم، فكانت بحاجة إلى من يواسيها خاصة في مرضها.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في شرحه للحديث الذي رواه البخاري (4240) عَنْ عَائِشَةَ: "... وَعَاشَتْ - أي فاطمة عليها السلام - بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ دَفَنَهَا زَوْجُهَا عَلِيٌّ لَيْلًا، وَلَمْ يُؤْذِنْ بِهَا أَبَا بَكْرٍ وَصَلَّى عَلَيْهَا، وَكَانَ لِعَلِيٍّ مِنَ النَّاسِ وَجْهٌ حَيَاةَ فَاطِمَةَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتِ اسْتَنْكَرَ عَلِيٌّ وُجُوهَ النَّاسِ، فَالْتَمَسَ مُصَالَحَةَ أَبِي بَكْرٍ وَمُبَايَعَتَهُ... ".
حيث قال رحمه الله تعالى:
"وكأنهم كانوا يعذرونه في التخلف عن أبي بكر في مدة حياة فاطمة، لشغله بها وتمريضها وتسليتها عما هي فيه من الحزن على أبيها صلى الله عليه وسلم" انتهى من "فتح الباري" (7/494).
وهذا شبيه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان رضي الله عنه بعدم الخروج إلى بدر بسبب مرض زوجته ابنة النبي صلى الله عليه وسلم.
والأمر الثاني:
أن أبا بكر رضي الله عنه كان في حاجة إلى بقاء كبار الصحابة - خاصة أهل العلم منهم - في المدينة ليعينوه في تدبير أمور الدولة ويشيرون عليه في الفتوى والقضاء وإدارة الحروب، سواء المتعلقة بحروب الردة أو بالفتوحات، فالظاهر أنه أحب بقاء علي معه كوزير معين له، كما كان حال عمر وغيره رضوان الله عليهم، بدليل أن هذه الوظيفة هي التي استمر علي في القيام بها زمن عمر وعثمان رضوان الله عليهم أجمعين.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
"... وهَذا اللّائِقُ بَعَلِيٍّ، رضي الله عنه، والذي تدل عليه الآثار؛ من شهوده معه الصلوات، وخروجه معه إلى ذي القصة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما سنورده، وبذله له النصيحة والمشورة بين يديه" انتهى من "البداية والنهاية" (9/417).
ولمزيد الفائدة حول مبايعة علي لأبي بكر رضي الله عنها تحسن مطالعة جواب السؤال رقم: (147540).
والله أعلم.
تعليق